لا تجد من يحاسبها .. أحزاب تستحوذ على نسب من أموال المشاريع وامتيازات المناصب العليا في مؤسسات حكومية
شبكة نيريج:
على الضفة اليسرى من نهر دجلة وسط الموصل (405 كم) شمال بغداد، وقف منهل سيد (56 سنة) يتأمل الفراغ الذي أحدثته حرب التحرير من داعش 2016-2017 في الضفة الأخرى من النهر حيث المدينة القديمة التي كان فيها منزله الذي دُمر مع مئات المنازل الأخرى.
قال وذراعه ممدودة مشيراً إلى المكان “ننتظر أن يمنحونا تعويضاً منذ 6 سنوات، لكنهم يماطلون، وكل يوم نسمع أخباراً عن اعتقال مسؤولين وسجنهم بتهم الفساد والسرقة، إنها أموالنا التي يسرقونها”. ثم يتابع: “هؤلاء المسؤولون أنفسهم، كانوا يعدوننا بتحصيل حقوقنا، ويبدو أنهم حصلوا عليها بالفعل، وبدلاً من إعطائها لنا، وضعوها في جيوبهم!”.
المسؤولون الذين تحدث عنهم منهل، هم محافظ نينوى الأسبق نوفل العاكوب، الذي أقيل من منصبه بقرار برلماني عام 2019، وصدرت ضده أحكام بالسجن يصل مجموعها إلى 5 سنوات بتهم تتعلق بالفساد وسوء الإدارة، وإحداها تعلقت بمشروع وهمي لرفع الأنقاض من المدينة القديمة حيث منزل منهل سيد، المدمر.
الحكم ضد العاكوب، كان بداية لحملة ملاحقات قضائية واسعة استهدفت موظفين حكوميين وممثلي جمعيات إسكان بتهم الفساد، وصدرت أحكام بالسجن ضدهم تراوحت بين 10 و99 سنة، فضلاً عن إحداث تغييرات كبيرة في المناصب الإدارية، لكن ذلك لم يقضِ على ما يصفه كثيرون في نينوى بظاهرة الفساد المستشرية.
“هؤلاء المسؤولون أنفسهم، كانوا يعدوننا بتحصيل حقوقنا، ويبدو أنهم حصلوا عليها بالفعل، وبدلاً من إعطائها لنا، وضعوها في جيوبهم!”.
هيئة النزاهة في نينوى، ما زالت تصدر بين حين وآخر، بيانات حول ضبط عملية فساد بواحدة من القطاعات الحكومية، ويتم الإعلان عن اعتقال شخصية إدارية بارزة، كما حدث في 7 حزيران/ يونيو 2023، حين اعتقل عناصر من خلية الصقور الاستخبارية بالتنسيق مع هيئة النزاهة، معاون محافظ نينوى لشؤون التخطيط د. رعد العباسي، واقتيد من منزله في الجانب الأيسر لمدينة الموصل (405 كم) شمال بغداد، للتحقيق معه بتهم متعلقة بالفساد.
في 19 حزيران 2023 أحيل إلى محكمة جنايات نينوى/ الهيئة الأولى، وفقاً للمادة 308 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 والتي أصدرت بحقه حكماً بالسجن الشديد لخمس سنوات وغرامة مالية بخمسة ملايين دينار.
أتى ذلك بعد أيام من إعلان الدائرة القانونية في هيئة النزاهة الاتحادية في بيان، إصدار محكمة جنايات الرصافة في العاصمة بغداد، حكماً غيابياً بحق رئيس مجلس محافظة نينوى، وعضو مجلس النواب السابق بشار حميد محمود الكيكي، بالسجن لمدة 15 سنة، استناداً إلى المادة 315 من قانون العقوبات المتعلقة باختلاس الموظفين أموالاً بعهدتهم.
وأشار البيان إلى الكيكي، ومعه شخص آخر (دون الإشارة إلى اسمه أو إن كان قد صدر بحقه حكمٌ قضائي)، وهما قاما بالاستيلاء على رواتب أحد الموظفين منذ الأول من تموز/ يوليو 2015 ولغاية الأول من نيسان/ أبريل 2017. ولفت البيان إلى أن ذاك الموظف كان يتمتع بإجازة طويلة الأمد لأربع سنوات.
ويعد بشار الكيكي، ثاني رئيس مجلس محافظة في نينوى، يصدر حكم ضده بالسجن، إذ سبقه في ذلك اللواء سالم الحاج عيسى، إذ صدر حكم ضده بالسجن في 2 تموز 2007 لمدة 5 سنوات، وأيضاً بتهم تتعلق بالفساد، والاثنان محسوبان على التحالف الكردستاني في نينوى.
مصدر في ديوان محافظة نينوى، نخفي اسمه بطلب منه، ذكر أن الإجراءات الأخيرة ضد الكيك والعباسي، تمت بعد زيارة لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني، إلى مدينة الموصل في 12 أيار/ مايو 2023 على رأس وفد حكومي، وعقد اجتماعاً مع 30 عضواً في مجلس النواب عن محافظة نينوى، قدموا له شكاوى ووثائق كثيرة تثبت وجود عمليات فساد في مختلف القطاعات الحكومية، وأن السوداني أمر على الفور بتشكيل لجنة وزارية للتحقيق في تلك المزاعم.
وكشف المصدر عن ملفات فساد قدمها النواب للسوداني، إذ قال: “النائب محمد فرمان، أبلغه بأن هنالك شخصيات سياسية وأحزاب تسيطر على المشاريع في نينوى، وأنها تفرض نسباً من مبالغ تنفيذها لصالحها، وان إدارة المحافظة ضعيفة والمشاريع التي تطلقها عبثية وينخر فيها الفاسد وأيده في ذلك النائب محمد نوري العبد ربه، الذي أضاف بأن المكاتب الاقتصادية التابعة للأحزاب تسيطر على بعض المشاريع وتحصل عليها عنوة في المحافظة، اما النائب عبد الرحيم الشمري فقد ذكر بأن الفرص الاستثمارية تحال في نينوى مقابل عمولات تتراوح بين مليون ومليوني دولار، وأن مستثمرين تقدموا بشكاوى عن ذلك للنزاهة، وأن السوداني طلب منه أن يحضر المستثمرين هؤلاء إلى بغداد ليقابلهم شخصياً ويستمع لشكاواهم مباشرة”.
وبين المصدر، أن رئيس الوزراء وبناءً على ما توصل إليه من نتائج خلال زيارته نينوى، أصدر الأمر الديواني رقم 23425 في 15/5/2023 الذي أعاد بموجبه تشكيل المكتب التنفيذي لإعمار الموصل، ضم 6 شخصيات هي، مستشار رئيس الوزراء للشؤون الفنية ووكيلا وزارتي المالية والتخطيط ومحافظ نينوى ومدير بلديات نينوى السابق ورئيس جامعة الموصل.
وتوقع المصدر أن تجرى عمليات توقيف جديدة بحق شخصيات أخرى ذات مناصب إدارية رفيعة خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن هنالك ملفات يتم تداولها في الوقت الراهن، منها المتعلقة بمشاريع الإعمار، وكذلك الاستثمار، وقطاعات الصحة والعقارات والتربية.
وقال بأن “السنتين الأخيرتين شهدتا اعتقال العشرات من الموظفين الحكوميين بتهم الفساد” أكثرهم في دائرة التسجيل العقاري وبلدية الموصل وديوان المحافظة، وصدرت جملة من الأحكام القضائية ضدهم. ويستدرك: “لكن غالبية الأحكام صدرت ضد موظفين صغار في مؤسسات حكومية، وما يختلف هذه المرة، أن الملاحقات القضائية بدأت تطال كبار الموظفين”.
استناداً إلى وثائق حكومية صرف أكثر من 6 ترليون دينار (4.5 مليار دولار) على تنفيذ مشاريع في نينوى خلال السنوات الأربع المنقضية عدا الأموال التي خصصتها دول ومنظمات أممية، لكن ما يزال الجانب الأيمن من الموصل مع أقضية ونواحي عديدة تعاني من مستويات كبيرة من الدمار وغياب البنية التحتية بسبب الفساد المالي والإداري والسياسي.
تحرك سياسي
ويرى المحلل السياسي مراد عبد الكريم، أن الإجراءات القضائية الأخيرة ذات طابع سياسي، لكون معاون المحافظ د. رعد العباسي، هو زوج عضوة مجلس النواب بسمة بسيم التي تعد من أبرز نواب نينوى المنتمين لحزب “تقدم” الذي يتزعمه محمد الحلبوسي، رئيس مجلس النواب العراقي.
ويوضح: “الحلبوسي من محافظة الأنبار، لكن مع ذلك يسيطر حزبه- تقدم- على الكثير من المناصب الإدارية المهمة في نينوى، وملاحقة البعض منهم قضائياً جزء من تحرك سياسي لوقف نفوذه المتزايد هناك، وذلك يعني وبدرجة كبيرة منعه مستقبلاً من تجديد بقائه في منصبه”.
ويلفت إلى أن الشيء ذاته ينطبق على بشار الكيكي، رئيس مجلس محافظة نينوى، إذ إنه يمثل التحالف الديمقراطي الكردستاني، الذي تتنافس معه قوى سياسية أخرى للسيطرة على المناصب الإدارية في المحافظة مثل دائرة الصحة والاستثمار وقائمقامية الموصل وغيرها.
ولا يستبعد المحلل مراد، أن يكون فتح الملفات الفساد قضائياً في نينوى “خطوة استباقية لتحجيم نفوذ القوى السياسية التي تمد أذرعها إلى نينوى من خارجها” قبيل انتخابات مجالس المحافظات التي ستجرى في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023.
ويستدل في ذلك إلى تحالف أعلن عن تشكيله في 2022، يحمل اسم “التحالف العربي في نينوى” يضم شخصيات سياسية تمثل مختلف العشائر العربية في نينوى، وقال إن الهدف من تشكيله هو الدخول في انتخابات مجلس المحافظات المقبلة لتقليص هيمنة التحالف الكردستاني.
وتحدث عن تحالف آخر أعلن عنه عضو مجلس النواب أحمد الجبوري، في 5 حزيران 2023، يضم فضلاً عنه وزير الدفاع ثابت العباسي، ومحافظ نينوى نجم الجبوري. وذكر المحلل مراد بأن هذا التحالف يستهدف بالدرجة الأساس منصب محافظ نينوى وإبقائه للمحافظ الحالي نجم الجبوري.
د. سالم خيري ناصر، متخصص بالقانون العام، يعتقد بأن المرحلة الحالية تشهد تغييراً في المشهد السياسي بنينوى، بعد فترة طويلة من هيمنة التحالف الكردستاني على القرار فيها بدءاً من نيسان/ أبريل 2003، بحكم وجود ممثلين عنه في مجلس المحافظة أو في مجلس النواب عن محافظة نينوى: “هم وإن كانوا يقدمون أنفسهم ممثلين عن نينوى، لكن في الحقيقة هم يتبعون إقليم كردستان وما يمليه عليهم تحالفهم”، يقول د. سالم.
ويشير إلى أن الكثير من الشخصيات البارزة في نينوى كانت تحجم عن دخول المعترك السياسي، خوفاً من الاستهداف بسبب سيطرة الجماعات المسلحة على الشارع التي قام عناصرها باغتيال العشرات من الوجهاء وهددوا كثيرين غيرهم “فبقيت الأبواب مفتوحة لنواب كرد مقيمين في إقليم كردستان أو محميين من قبل قوات البيشمركة في سهل نينوى بوصفها منطقة متنازع عليه بحكم المادة 140 من الدستور، حتى إعلان استفتاء استقلال الإقليم عن العراق، لتتحرك حكومة المركز وتنهي سيطرة الكرد على سهل نينوى”.
ويشير إلى أن الحكومات المحلية قبل سيطرة داعش على الموصل كانت تعلن معارضتها بنحو واضح لحكومة المركز، وهذا ما أحدث فجوة في المحافظة استغلتها الجماعات المسلحة، على حد قول د. سالم، لهذا
ويرى بأن ما يجري الآن هي عملية تصفية، لتشكيل حكومة محلية في نينوى تسيطر عليها قوى سياسية من داخل المحافظة، ومرتبطة في الوقت ذاته بالمركز، “وبمعنى أدق بأحزاب السلطة” يقول د. سالم.
كيف تطبق إدارة نينوى نظرية (أذن الجمل)؟
عضو مجلس النواب عن محافظة نينوى خالد العبيدي، أصدر بياناً في 16حزيران 2023، أكد فيه واستناداً إلى وثائق حكومية، صرف مبلغ 6 ترليونات و128 مليار دينار عراقي، أي ما تعادل 4.5 مليار دولار أميركي، على تنفيذ مشاريع في نينوى خلال السنوات الأربع المنقضية، أي خلال فترة ما بعد تحرير نينوى من تنظيم “داعش” الذي سيطر عليها بين 2014 و2017 “عدا أموال أخرى كبيرة خصصتها دول ومنظمات أممية لإعمار المحافظة”.
وقال العبيدي في بيانه: “مع ذلك، لا يزال الجانب الأيمن من مدينة الموصل ومعه أقضية ونواحي نينوى يعاني من مستويات مروعة من الدمار وبعضها من ضعف أو غياب شبه كامل في البنية التحتية”.
وعبر عن اعتقاده بأن المقارنة بين تلك المبالغ المصروفة مع واقع المشاريع المنفذة فعلياً في نينوى “يشير الى وجود هدر كبير في صرف الأموال، لأسباب قد تتعلق بالفساد المالي والإداري وحتى السياسي، أو سوء في التخطيط وفوضى في تحديد الأولويات، أو عدم الشفافية في الإجراءات المالية نتيجة غياب الرقابة الكافية”.
وفي 18حزيران سلم العبيدي، رئيس هيئة النزاهة القاضي حيدر حنون، كتاباً ذكر فيه أن حكومة نينوى المحلية ضعيفة في إدارة ملف الإعمار، وأنها أهملت اعمار الجانب الأيمن لمدينة الموصل وكذلك بعض الأقضية والنواحي التابعة للمحافظة، مما يعني بالنسبة إليه هدراً في الأموال المخصصة للإعمار.
وطالب الهيئة بالتحقيق في مقدار الأموال التي دخلت في حسابات محافظة نينوى للأعوام (2019-2020-2021-2022) وكذلك خطط توزيع مشاريع الإعمار وتوافقها مع التخطيط العمراني في المحافظة، ومدى مراعاة الكثافة السكانية وحجم الدمار ونسبة الفقر في المناطق التي شملها إعادة الإعمار في توزيع المشاريع على المحافظة، وكذلك آليات التعاقد والإحالة في تنفيذ مشاريع الأعمار.
وأيضاً التحقيق في أسلوب التعاقد المباشر على المشاريع وما هي المعايير التي تم بموجبها اختيار الشركات المنفذة للمشاريع، ونسبة انجاز المشاريع المحالة وفق الجدول الزمني المخطط للتنفيذ، مع نسبة المشاريع المتلكئة والأسباب التي أدت إلى ذلك وتوضيح أسباب الهدر في المال العام في حال ثبوت ذلك في التحقيقات.
محافظ نينوى نجم الجبوري، نفى اتهامات عضو مجلس النواب خالد العبيدي، وقال في بيان، إن ما قاله العبيدي عار عن الصحة لكون المبالغ الممولة للمحافظة منذ 2019 ولغاية 2022، بلغت ثلاثة ترليون و191 مليار دينار عراقي (تعادل نحو 2.25 مليار دولار أميركي)، وأن المبلغ الذي صرف منها لغاية الان هو ترليون و817.5 مليار دينار عراقي فقط.
وذكر أن هذه المبالغ صرفت لتنفيذ 2700 مشروع، أنجز منها لغاية الآن 1600 مشروع، وقال: “استلمنا تركة ثقيلة في المحافظة بسبب توقف تنفيذ المشاريع من سنة 2014، ونينوى تشهد الآن نهضة عمرانية كبيرة”.
وفسر تصريحات النائب خالد العبيدي، بأنها تأتي كجزء من “محاولات مغرضة يسعى البعض إلى إشاعتها وتقديم معلومات تجافي الحقيقة بهدف التشويش على الرأي العام وطمس الحقيقة ومحاولة النيل من ثورة الإعمار التي تشهدها محافظة نينوى” على حد قول المحافظ.
محافظ نينوى الأسبق، منصور المرعيد، قال في معرض حديثه عن المبالغ التي تسلمتها نينوى بغية تنفيذ مشاريع إعمار فيها “لم يكن هنالك تخطيط استراتيجي يتضمن حاجة المحافظة للمشاريع، لأن توزيعها لم يتم عبر متخصصين، إضافة الى التأثير الكبير جدا من كتل سياسية بعضها من خارج محافظة نينوى، وفرضها تنفيذ مشاريع لم تكن ذات أولوية”.
المرعيد: كل كتلة سياسية لديها شركات وتفرض على إدارة المحافظة إحالة المشاريع اليها
وذكر المرعيد، بخصوص حصول القوى السياسية على نسب من المشاريع “كل كتلة سياسية لديها شركات وتفرض على إدارة المحافظة إحالة المشاريع اليها”. ودعا رئاسة الوزراء، إلى عدم منح أي استثناءات في أحاله مقاولات تنفيذ المشاريع، وجعلها فقط في السياقات الرسمية المعمول بها سابقاً، لكي تتنافس الشركات فيما بينها، وتراجع امكانياتها من قبل اللجان المختصة.
ويتماشى اتهام المرعيد، بحصول قوى سياسية على حصص من المشاريع مع ما يتداوله مواطنون من نينوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي بحصول فصائل في الحشد الشعبي عبر المكاتب الاقتصادية فضلاً عن أحزاب سياسية على نسب في مشاريع النفع العام تتراوح بين 10 و20 في المئة.
محافظ نينوى نجم الجبوري، أقر في مقابلة إذاعية أجريت معه في أواخر 2022، بأن جهات لم يسمها، تحصل على نسب في المشاريع، لكنه ينفي أن يكون مقدارها كقاعدة عامة 20 في المئة، وقال: “قد تصل في بعض الأحيان إلى 20 في المئة، لكنها بشكل عام لا تتجاوز عن 10 في المئة”.
ولفت إلى أنه قام بتغيير لجان إحالة المشاريع لمرات عديدة لكنه لم يستطع حل المشكلة، حسب تعبيره، وقال بأن اللجنة تتألف عادة من سبعة موظفين، وبعض الشركات تصل إليهم وتستميل غالبيتهم.
ويعتقد مشاور قانوني تواصلنا معه في محاكم استئناف نينوى، وطلب عدم ذكر اسمه، أن المحافظ أقر في تصريحه وبنحو علني بوجود جريمة منظمة ومستمرة، تشترك فيها إدارته بوصفها من تحيل المشاريع العامة.
وضرب مثالاً لتوضيح مدى خطورة الأمر: “لو أن 100 مليون دولار خصصت لمشروع ما، فهذا يعني، أن 10 ملايين منها، تذهب لحزب أو فصيل مسلح دون وجه حق، ومن يقوم بتسليمها لها، هي إدارة المحافظة، يحدث ذلك بعلمها وموافقتها مع أنه هدر للمال العام وفساد واضحٌ وضوح الشمس!”.
واستغرب كيف أن “جريمة مكتملة الأركان تحدث أمام هيئة النزاهة والقضاء العراقي من دون أن يتدخلا، ولا يقدم مجلس النواب العراقي على استجواب المحافظ لمعرفة المزيد بشأن تصريحه “الخطير”، ويستدرك: “هذا يؤكد بان أي تحرك قضائي إزاء أي ملف فساد، إنما يحصل بإيعاز سياسي لا غير!”.
محافظ نينوى نجم الجبوري يؤكد حصول جهات على نسب مالية في المشاريع، لكنه ينفي أن يكون مقدارها كقاعدة عامة 20% “قد تصل في بعض الأحيان إلى 20% لكنها بشكل عام لا تتجاوز 10%”.
موظف مطلع في حكومة نينوى المحلية (تلاحظ عزيزي القارئ باننا نخفي أسماء الموظفين وسواهم خشية تعرضهم لعقوبات إدارية أو ملاحقتهم قضائياً) ذكر أن الفساد لا يتعلق بالنسب التي تخصص لجهات نافذة في نينوى، بل أيضاً بطريقة توزيع المشاريع ذاتها، وقال بأن تعليمات وزارة التخطيط هي بتوزيع المبالغ المخصصة لتنفيذ المشاريع على مختلف القطاعات وفقاً لنسب معينة ويمنع تجاوزها، مثل “10 إلى 15 في المئة لكل من قطاعي الصحة والتربية وهكذا”.
وأشار إلى أن محافظة نينوى لا تلتزم بذلك، وتخالف القانون عبر “الضغط على موظفي وزارة التخطيط أو تقديم رشاوى لهم، فتتم زيادة النسبة لقطاع على حساب الآخر ولهذا نجد بأن هنالك قطاعات كالصحة تعاني من تأخر في إنجاز مشاريعها، في مقابل إنجاز الكثير من المجسرات وتعبيد الطرق، لأنها مشاريع يمكن للمواطن رؤيتها بالعين، وبالتالي سيعتقد بان المحافظة تقوم بدورها الإعماري كما يجب، لكن في الحقيقة هناك تغطية على فساد هائل” بحسب نص تعبيره.
ويتابع، “لدينا مثل في الموصل يقول، أخذنا من الجمل أذنه، وهذا ينطبق على الوضع في نينوى حرفيا، فمبالغ كبيرة جداً رصدت لإعمار مادمرته حرب التحرير من داعش عام 2017، لكن لم ينفذ منها ما يعزز الجانب الخدمي الأساسي، وتم التركيز على مشاريع كمالية، في حين أن المستشفيات ما زالت مدمرة، والمرضى الذين يراجعون المستشفيات في المقرات البديلة، يشترون علاجاتهم الدوائية بأنفسهم من الصيدليات الخاصة”.
صراع المناصب
عضو مجلس النواب عن محافظة نينوى، عبد الرحيم الشمري، قال إن المحافظ الحالي نجم الجبوري، وكذلك المحافظين الذين قبله ويقصد بهم (منصور المرعيد، ونوفل العاكوب، وأثيل النجيفي) وقعوا على تعهدات لمنح شخصيات من التحالف الكردستاني من إقليم كردستان (يضم حزبين، الديمقراطي الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني)، 125 منصباً إدارياً مهماً داخل محافظة نينوى.
وذكر أن ذلك يتم بدون أي مقابل “نينوى لا تجني أي فائدة أو امتيازات مقابل ذلك، وإقليم كردستان لا يسمح أصلا لمسؤولي نينوى حتى حمل أسلحتهم الشخصية حين يرومون الدخول عبر نقاط التفتيش إليها”.
حديث الشمري، جاء خلال مشاركته في ندوة عقدت بمدينة الموصل يوم السبت 13 أيار 2023 حملت عنوان (نينوى بين التحدي السياسي والطموح المجتمعي)، عدد خلاله أمثلة على تلك المناصب:
“النائب الأول لمحافظ نينوى، معاونو المحافظ للشؤون الإدارية والمنظمات والتخطيط الريفي والتنظيم المالي والتخطيط المالي، رؤساء أقسام الحسابات والعقود والخدمات والموارد البشرية والقانون والأملاك والتدقيق والهندسة والإدارة والمالية والتنمية والدراسات والتخطيط العمراني وتقوية الأداء والبحث والتطوير ومعاون مدير قسم المواطنين وقائمقام الموصل ومدير دائرة المجاري ومدير عام صحة نينوى ومعاونه مدير الزراعة ومدير الماء السابق والمعاون الإداري لمدير بلدية الموصل وغيرهم” وقال بأن هؤلاء جميعهم (بارتي) أي من الحزب الديمقراطي الكردستاني.
ونفى عضو مجلس النواب عن التحالف الكردستاني، شيروان الدوبرداني، خلال الجلسة ذاتها صحة المعلومات التي قدمها الشمري، ووصفها بغير الدقيقة، وقال بأن جميع المناصب التي تعود لـ(البارتي)أي الحزب الديمقراطي الكردستاني، في عموم محافظة نينوى “لا تشكل سوى 1 في المئة من الاستحقاق الانتخابي أو القومي بوصف الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية، كما أن الكرد يشكلون القومية الثانية في نينوى، مع ذلك فجميع من يديرون تلك المناصب يعملون بكفاءة في خدمة جميع مواطني محافظة نينوى، وليس فيهم من يرد مواطناً يقصدهم لطلب حاجة أو معاملة أو تسهيل أمر”.
المحلل السياسي جرجيس توما، يرى بأن ما يصفها بـ”حرب المناصب المستعرة في نينوى” غايتها الأساسية هي الحصول على أكبر قدر ممكن من المنافع لمصلحة الأحزاب السياسية، وأن نينوى مثل غيرها من المحافظات العراقية محكومة بنظام المحاصصة القومية والطائفية، وفقاً لما ذكر.
ويقول: “على سبيل المثال، فإن منصب قائمقام الموصل محجوز للتحالف الكردستاني، وكذلك منصب النائب الأول للمحافظ، ومديري دوائر الماء والمجاري والزراعة والتجارة ومعاون قائد شرطة ومعاون تربية نينوى، أما تربية نينوى، فمنصب مديرها محجوز لكتلة سند برئاسة أحمد الأسدي، وبقية المناصب للمشروع العربي برئاسة خميس الخنجر، وحزب تقدم برئاسة محمد الحلبوسي، وكل هذه الأحزاب هي من خارج نينوى!”.
والسبب الذي جعل أحزاباً من خارج نينوى تستحوذ على المناصب المهمة فيها وفقاً لتوما، هو فقدان أهالي نينوى الثقة بالسياسيين فيها، إذ كانوا قد منحوا ثقتهم للشقيقين أسامة النجيفي (رئيس مجلس نواب أسبق) وأثيل النجيفي (محافظ نينوى الأسبق) لكنهما “أخفقا، بسبب دخولهما في صراع مع حكومة المركز برئاسة نوري المالكي، فاستثمر تنظيم داعش ذلك وسيطر على المحافظة في 2014 ونزح نحو مليوني مواطن إلى بقية المحافظات وكثيرون منهم هاجروا إلى خارج البلاد، فضلاً عن مقتل الآلاف وتدمير البنى التحتية بالكامل خلال حرب التحرير من داعش بين سنتي 2016-2017”.
ويشير إلى أن “أحزاباً سنية منافسة لآل نجيفي، استغلت أفول نجميهما، ودخلت الساحة السياسية الفارغة في نينوى واستقطبت شخصيات في نينوى لتصبح ممثلة عنها، هذا فضلاً عن سيطرة فصائل الحشد الشعبي على الأرض كبديل لتنظيم داعش “فشاع الفساد والمحسوبية بنحو كبير في جميع مؤسسات الدولة”.
مديرو الدوائر المرتبطون بأحزاب وجهات متنفذة وفقاً لجرجيس توما، في منأى عن الانتقاد والمساءلة: “الأحزاب والجهات تملك مجموعات مسلحة، والكثير من النشطاء في نينوى تم تهديدهم أو أحيلوا إلى المحاكم خلال السنوات الأربع المنقضية، بسبب انتقادهم مدير دائرة أو أدائها بنحو عام”.
إعلامي شاب من مدينة الموصل، تم اعتقاله في شهر نيسان/ أبريل 2023 لنشره مقطع فيديو يوثق حالة خطيرة تخص دائرة أمنية، قال عبر اتصال هاتفي أجريناه معه أنه احتجز لخمسة أيام، وهدد بالإحالة إلى القضاء بتهمة المحتوى الهابط والإساءة إلى السلطة القضائية”.
واضاف أن عناصر أمنية تواصلت مع ناشطين مدنيين يعرفهم في ذات الفترة وهددوهم بالاعتقال، في حال نشروا انتقادات للمؤسسات الحكومية في وسائل التواصل الاجتماعي.
قال الشاب بنبرة حزينة: “عدوني من أرباب السوابق، لأنني سبق أن واجهت القضاء بتهمة التشهير بمدير عام في المحافظ لا أريد أن أذكر اسمه لكي لا يقاضوني مجدداً، رغم حصولي على حكم بالبراءة من التهمة المنسوبة إلي حينها”.
وتابع بعد لحظات من الصمت: “التهمة التي وجهها إلي المدير العام لا تنتج عنها دعوى قضائية، لأنني لم أسئ إليه بشيء، لكن هو مدعوم من حزب قوي في حكومة بغداد، وأراد تخويف الناشطين من خلالي لكي لا تنتقد إدارته ولا يتحدث أحد عن ملفات فسادها المتوالية والمحمية بشبكة مصالح سياسية”.
*انجز التحقيق من قبل شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية ونشر على موقع درج.