جرحى احتجاجات تشرين “قتلونا ألف مرة” ..  معاقون ومنسيون!

مليشيات “الطرف الثالث” قتلتهم ووزارة الصحة تخلت عنهم وتساقطت وعود الحكومة لهم

حنان سالم/ تشرين الأول 2022:

لم يتصور عادل فضل (17 عاما) أن يجد نفسه يوماً حبيس كرسي متحرك، وهو الذي كان يقضي ساعات طوال راكضاً في ساحات مدينة الناصرية جنوبي العراق، وهو يلعب كرة القدم. لكن مسلحاً ملثما غير حياته، خلال احدى التظاهرات المطالبة بالاصلاح والتي شهدتها المدينة، برصاصة بندقية أقعدته.

حدث ذلك في 26شباط/فبراير2021، يومها كان قد خرج للتو من منزل المدرس الخصوص مع زملاء له حينما تلقوا خبر وقوع اشتباكات بين محتجين والقوات الأمنية في ساحة الحبوبي فتوجهوا إلى هناك من فورهم.

“كانت الفوضى تسود الساحة ورأيت جرحى وقتلى ملقون على الأرض، فيما الرصاص الحي والقنابل الدخانية تنهال بشكل كثيف. سقط متظاهر كان بجانبي انحنيت لأحمله وما أن رفعت رأسي حتى وجدت نفسي بمواجهة الموت”. يقول عادل وهو يغمض عينيه.

“لم يكن يبعد عني أكثر من 15 مترا، رفع سلاحه في وجهي وأطلق النار علي، فسقطت مضرجاً بدمائي”.

شهدت غالبية مدن الجنوب العراقي ذات الغالبية الشيعية، بين نهاية 2019 ومنتصف 2021، احتجاجات شعبية شارك فيها مئات الآلاف رافعين شعار المطالبة بإزاحة الطبقة السياسية الحاكمة ومحاسبة الفاسدين.

وكانت الناصرية واحدة من أكثر بؤر الاحتجاج سخونة، حيث تعرض متظاهروها للعديد من الهجمات الدامية ومحاولات ازالة خيم الاعتصام، غالبيتها شنت من قبل أفراد في الأجهزة الأمنية وعناصر مسلحة تابعة لفصائل في الحشد الشعبي، وسقط خلالها مئات المحتجين بين قتيل وجريح.

في ذلك اليوم بقي الشاب عادل مرميا على الأرض وسط إطلاق النار، قبل أن يحمله متظاهرون ونقلوه بواسطة(ستوتة)عربة تكتك، الى مستشفى الحسين التعليمي الذي كان قد استقبل قبله عشرات من المصابين امتلأت بهم صالات العمليات.

لنحو ساعة، ظل عادل ينزف دون حراك، في انتظار أن تفرغ احدى الصالات. يبتسم وهو يقول “كان اسمي ضمن قائمة المقتولين بسبب خطورة إصابتي، فالجميع كان يظن بأنني انتهيت. كنتُ اسمع ما يدور حولي من كلمات عزاء دون أن أتمكن من الحراك، قبل أن يقول أحد الأطباء وهو يتفحصني بانني حي، وأمر بنقلي الى أول صالة عمليات فرغت”.

أصابت عادل رصاصتان، وأجريت له خلال ثلاثة أيام تسع عمليات لاستئصالهما ومعالجة الأجزاء المتضررة من جسده بسبب النزيف. خسر في النهاية احدى كليتيه وجزء من الطحال والكبد، وأصبح أسير اعاقة دائمة وآلام لا تفارق جسده.

بكلمات متقطعة ويدين مطبقتين على بعضهما، يكمل عادل :”منذ ان أفقتُ من العملية الأولى، راودني شك بأنني لن أسير على قدمي مجدداً، وزادت شكوكي حين تواصل أبي مع مستشفيات خارج البلاد أثناء تواجدي في مستشفى الحسين. كان يعلم بخطورة حالتي”.

يحني رأسه ويتابع بصوت أعلى: “كنت أشعر بنوبات اختناق شديد، فنقلتني العائلة الى مستشفى زين العابدين في كربلاء واكتشف الأطباء هناك أن السبب يعود للدماء التي ملأت رئتي.. دخلتُ معها في دوامة آلام عمليات تنظيف الرئتين، ظلت رئتاي تمتلئان بالدماء ويتم تنظيفها يومياً لمدة 15 يوماً”.

في يوم إصابة عادل، ودعت الناصرية ستة قتلى الى مقابر النجف حيث يدفن ابناء المكون الشيعي، بينما امتلأت المستشفيات بأكثر من 250 مصاباً من المتظاهرين والقوات الأمنية، يعاني الكثير منهم والى اليوم من مشاكل صحية واعاقات غيرت كل تفاصيل حياتهم.

يصف عادل تلك الأيام بأنها “الأسوء في حياته”. خرج بعدها الى المنزل ليتلقى العلاج هناك، ثم عرف بحقيقة حالته. “سألت المضمد الذي كان يزورني لتنظيف جروحي، عن سبب عجزي عن تحريك ساقيَّ فأخبرني بأن احدى الرصاصتين اصابت عمودي الفقري واضرت بالحبل الشوكي”.

بعد الحادثة بشهر واحد، ومع وعود الحكومة بعلاج جرحى التظاهرات ممن يعانون من اصابات معقدة، حاولت عائلة عادل الحصول على موافقات “الاخلاء الطبي” الخاصة بعلاجه في المانيا، لكن محاولاتهم باءت بالفشل بسبب ضوابط وزارة الصحة التي لم تعد إصابة عادل تستحق السفر.

الصورة بتاريخ 1\10\2022 في برلين

بعد محاولات عديدة، جاءت في نيسان أبريل 2022 موافقات العلاج والسفر الى المانيا مع عدد آخر من جرحى تظاهرات تشرين الذين لم يجدوا علاجا في المستشفيات العراقية.

وهناك علم عادل ان رحلة علاجه قد تستمر لأكثر من خمس سنوات، وأن تشخيص حالته كما “خطة علاجه” تختلف تماما عن تلك التي زودته بها المستشفيات العراقية.

رفضت وزارة الصحة خطة العلاج المقترحة من اللجان الطبية الالمانية، ليدخل الفتى مجددا حالة الانتظار على كرسيه المتحرك، وهو يرى تحطم آماله بالعودة للحركة.

بلغ عدد المصابين من المشاركين في احتجاجات تشرين 2019 في محافظات وسط وجنوب العراق، بحسب منظمات مدنية واحصائيات حكومية، أكثر من 17 الف مصاب بينهم أكثر من ثلاثة آلاف تسببت إصاباتهم بإعاقة جسدية دائمة.

بينما بلغ عدد القتلى 740 قتيلاً على مدى عامين من التظاهرات التي قوبلت من قبل أفراد في اجهزة امنية ومسلحين من فصائل حشدية بالنار.

ما واجهه عادل، حصل مع ناشطين آخرين سافروا الى المانيا في نيسان أبريل 2022 ضمن مجموعة واحدة ضمت 12 جريحاً، لكن رحلة علاجهم هناك تعطلت وواجهوا بعدها ظروفا صعبة أدت الى عودة عدد منهم فيما تشبث آخرون بالبقاء أملا في الحصول على فرصة لجوء.

في حين أن آخرين لم يحظوا حتى بفرصة السفر تلك بحجة عدم خطورة حالاتهم. آخرون أرسلوا الى الهند وتركيا في رحلات علاجية لاحقة، لم يحظى الضحايا في غالبها بالرعاية التي كانوا ينتظرونها.

روتين القتل والاهمال

وعد العزاوي (21 عاماً) الذي تواجد في ساحات التظاهر ببغداد، وشهد الفصول الأولى لعمليات قتل المحتجين بالرصاص والقنابل الدخانية، أصيب بثلاث رصاصات، تسببت احداها بشلل في ساقيه.

كان الشاب الذي يملك عينين ناعستين وجسداً نحيلاً يعمل عامل توصيل في أحد مطاعم بغداد ويعيش بمفرده في منزل صغير مستأجر اذ أن والداه توفيا منذ زمن. أحلامه بتحسين واقع البلد وانهاء الفساد دفعته مبكرا للمشاركة في التظاهرات. لكن هجوم مليشيا كتائب حزب الله يوم 4\12\2019 على جسر السنك، أنهى مسيرته الاحتجاجية.

يقول “يومها أطلق ملثم رصاصتين علي، كان على بعد 30 متراً تقريبا، الاولى استقرت في ظهري والثانية في ساقي. حين سقطت اقتربت مني ستوتة، فألقيت بجسدي داخلها، لكن المسلح بدا مصرا على قتلي فأطلق رصاصة أخرى نحوي، استقرت في رأسي”.

نقل وعد الى المفرزة الطبية في ساحة التحرير وسط العاصمة، ومن هناك أقلته سيارة اسعاف الى طوارئ مستشفى مدينة الطب، وبعد تداخل جراحي أنقذ حياته كان يحتاج الى دخول العناية المركزة لكنه اضطر للانتظار ستة أيام لعدم توفر سرير شاغر.

مع تفاقم اصابتي الرأس والظهر، والأخيرة أضرت بعموده الفقري وحبله الشوكي وسببت له الشلل، نقل الى مستشفى زين العابدين في كربلاء. يقول وعد “كان من المفترض أن يجروا عملية ترميم للعمود الفقري فور إصابتي لكي أستطيع المشي مجدداً، لكن الأطباء اعتقدوا باستحالة نجاتي”.

ظل الشاب ثلاثة أشهر في مستشفى زين العابدين، قبل أن يخرج الى منزله مع آلام لا تفارقه، ليسافر بعد نحو سنة من اصابته وعبر تنسيق من وزارة الصحة الى الهند، وهناك اقترح الأطباء زراعة شريحة تضخ مادة المورفين المسكنة وتخفف من ألمه لكن وزارة الصحة رفضت دفع تكاليف الشريحة بحجة أنها غير مفيدة لحالته.

عاد بعدها وعد الى بغداد مع آلامه وشلل محبط وأحلام محطمة. يقول بغصة ظهرت كنشيج في نبرة صوته “بعدها بأكثر من سنة قابلت رئيس الوزراء وحصلت على موافقة خطية منه لعلاجي في المانيا وبالفعل سافرت مع 11 جريحا آخر، لكن تفاجأنا هناك بارسالنا الى مركز لتأهيل الجرحى وليس مستشفى جراحي تخصصي كما أخبرونا”.

يحرك كرسيه المدولب الى الوراء قليلا ويشد بقبضتيه على أطرافه وهو يحدق في ساقيه، قبل ان يعود للكلام: “استقبلنا المركز عدة أيام، ثم تعذر بقاؤنا هناك لعدم تخصصه بعلاج حالاتنا، وبقينا في الشارع ليوم ونصف، بعدها انتقلنا الى فندق بتنسيق من السفارة العراقية وتوجهنا للعلاج الى مستشفى آخر، وكما حدث في الهند اقترح الأطباء زراعة الشريحة”.

يبدي الشاب مثل معظم رفاقه المنتظرين، استياءه من الروتين الحكومي في معالجة الجرحى “منذ سبعة أشهر وانا انتظر توقيع الوزارة بالموافقة. لمَ كل هذا التأخير هل يشعرون بما نشعر به من ألم؟… أعلم انني لن أمشي مجدداً لكني اريد تخفيف آلامي، هذا كل ما نريده منهم”.

يقول المحامي حمزة عيسى والذي كان يرأس فريقاً تطوعياً للإغاثة الطبية له حضور فاعل في تظاهرات تشرين، أن اغلب الحالات التي تعامل معها فريقه وقاربت الـ600 حالة، كانت إصابات بطلق “بندقية صيد” وفي أماكن متفرقة من الجسم لكن جميعها كانت إصابات خطرة والكثير منها في مناطق حساسة كالعين والعمود الفقري.

يضيف: “كانت تصلنا مئات الحالات، والحصة الأكبر لمحافظة بغداد المركز الرئيسي للاحتجاجات، وكنت أتعامل مع الحالات الصعبة فقط ولأعمار تتراوح بين 8 الى 23 عاماً”.

لكن عيسى اضطر لاحقا الى ترك تلك المهمة بعد تلقيه جملة تهديدات وصلت الى محاولات اغتيال نجا منها كما يقول “بأعجوبة”.

القتل بأيدي الأصدقاء

وإلى الجنوب من بغداد، في النجف المدينة المقدسة لدى الشيعة، حيث مرقد الامام علي أبن ابي طالب، لم تكن مشاهد القتل غائبة أو مختلفة عما كان يجري في بغداد والناصرية. متظاهرون يقتلون في الشوارع على يد مجاميع مسلحة، يقال بانها تنتمي لأذرع السلطة الامنية، وأحيانا على يد مجاميع أخرى في اطار صراع النفوذ بين القوى السياسية المسلحة.

الشاب كميل، بالكاد قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين انضم الى مجاميع الدعم اللوجستي للمتظاهرين مقدماً الخبز الذي كان يعده بنفسه في فرن يعمل فيه. تواجد في الخامس من شباط/فبراير 2020 بمركز الاحتجاجات في ساحة الصدرين بمدينة النجف وسط أجواء أمنية متوترة، لحظة اختراق إطلاقة نارية رقبته ليصاب على أثرها بشلل رباعي.

يقول الشاب النحيل ذي الوجه المائل للسمرة: ” ظهيرة ذلك اليوم، أتى شيوخ عشائر ووجهاء معروفون الى الساحة وأخبرونا بأن القبعات الزرق في طريقها الى المكان بنية الصلح وانهاء التصعيد الخطير الحاصل”.

والقبعات الزرق، فصيل تابع للتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، يضم أشخاصاً عادة ما يكونون مسلحين بعصي كبيرة وأسلحة بيضاء وأحيانا بأسلحة نارية خفيفة، ويرتدون ملابس موحدة في الغالب ويعتمرون قبعات زرق للاستدلال عليهم.

وكانوا يكلفون بمهمات محددة من قبل التيار كالتفريق بين المتظاهرين والقوات الأمنية، وأحيانا التدخل لحماية متظاهرين أو حتى استهدافهم وفق التعليمات التي تصلهم.

قبل إصابة كميل بيومين، كان عناصر القبعات الزرق قد فضوا اعتصاماً للطلبة في جامعة الكوفة بالرصاص الحي. لذلك علم المتظاهرون بأن عليهم التعامل بجدية معهم.

يتابع كميل منتقداً دور شيوخ العشائر: “نصحونا أن ندرأ الفتنة ونتصالح معهم، وحين خرجوا بدقائق جاءت جماعة القبعات الزرق وهم يحملون الورود في أيديهم، لكننا تفاجأنا بوجود آخرين خلفهم يحملون الأسلحة، طوقوا الساحة سريعاً وبدأوا بإطلاق النار على من رفض الانسحاب وفض الاحتجاج في الساحة”.

ويضيف كميل سارداً تفاصيل ما وقع في ذلك النهار، الذي حول الصدريين من متظاهرين يؤيدون الاحتجاجات الى سلاح بيد السلطة لقمعها: “لا ننسى ذلك اليوم الدامي، حرقوا خيامنا واحدة تلو الأخرى وقتلوا عشرة من المتظاهرين بضمنهم مهند القيسي الذي حُملتُ معه في ذات سيارة الإسعاف بعد إصابتي بطلقة في رقبتي وانفجار رمانة يدوية تحت ساقي”.

بقي الشاب غائباً عن الوعي مدة ثمانية أيام، وبعد أن فتح عينيه أدرك سريعا وضعه الصحي، وأخذ يجهش في البكاء “عرفتُ ذلك دون أن يخبرني أحد .. كنت فاقداً السيطرة على جسدي ولا اشعر بأي جزء منه”.

19 يوماً قضاها كميل في المستشفى مع شعور مرير بالعجز، قبل أن يخرج مضطرا أثر تفشي فايروس كورونا في المستشفى. ذات الفيروس أدى الى اغلاق المطارات حينها وحال أيضاً دون سفره للعلاج في الهند.

يقول وهو يزيح بأصابع يده خصلة من شعره الطويل الذي غطى جزءا من وجهه، بأنه واجه صعوبة في الحصول على تأشيرة سفر مع عودة حركة الطيران الى المطارات العراقية، وأن السفارة الهندية أبلغته بحاجته الى تدخل من وزارة الصحة العراقية ليتم تسفيره “لذلك قابل أبي وزير الصحة وحين علم باصابتي يوم 5 شباط بساحة الصدرين حولني الى اللجان الطبية في بغداد رغم أن الباقين حولوا، كلاً الى اللجان الطبية في محافظته”.

يفسر ذلك القرار بأنه انعكاس لسيطرة التيار الصدري على وزارة الصحة، سواء عبر مكتب الوزير أو الكوادر المتقدمة في الوزارة.

“عرقلوا سفري أكثر من مرة، لم أفهم لماذا؟ حتى همس في اذني أحد موظفي الوزارة بأن ملفي عليه علامة استفهام. فهمتُ بعدها ما يحدث، فوزير الصحة تابع للتيار ومن هاجمونا في ذلك اليوم يتبعون ذات الجهة”.

مع استمرار محاولاته نجح كميل أخيرا في الحصول على استثناء من رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي وسافر مع باقي الجرحى الى المانيا في نيسان ابريل 2022.

هناك أخبره الأطباء بأن لا علاج لحالته، وبالتالي فلا أمل له في استعادة حركته “اكتشفت أن جميع تقاريري الطبية كانت خاطئة وأنني بحاجة الى معجزة لكي أعود كما كنت”

صنع في إيران

تنوعت الأسلحة التي استخدمت في مواجهة المتظاهرين في بغداد وباقي سوح الاحتجاج جنوبي البلاد، لكن ناشطين يرون بأن أكثرها فتكاً، كانت القنابل المسيلة للدموع والتي استخدمت بكثافة في الأسابيع الاولى لقمع المحتجين وايقاع اصابات قاتلة.

أصابت احدى تلك القنابل في 27 تشرين الأول/ اكتوبر 2019 وجه حيدر مرجان (24 عاماً) مباشرة لينجو من الموت بأعجوبة، فمعظم من سبقوه قتلوا مباشرة، في حين انه تجاوز الموت لكن بندبة عميقة على وجهه .

الشاب الذي كان يعليم الموسيقى للأطفال، ويتردد على ساحة التحرير في بغداد ويحشد للتظاهر ضد الفساد، تسببت أصابته بكسر في الفكين وقطع في أعصاب العين وعضلات الوجه.

يقول “شعرتُ بالدخان يخرج من كل مكان في وجهي ورأسي، فقدتُ الوعي خمسة أيام وأفقتُ في مستشفى الكندي وأنا أرى بعين واحدة. من شدة الضرر في انسجة الوجه اصبتُ بالغرغرينا. ساعدني أصدقائي بجمع المال وسافرت فوراً الى الهند، بقيت هناك خمسة أشهر استطعتُ خلالها التخلص من الغرغرينا واستعادة جزء من وجهي بزراعة فك سفلي”.

عاد حيدر الى العراق وحاول استكمال علاجه خارج البلاد برعاية وزارة الصحة لكنه واجه الرفض. في احدى المرات قال له أحد موظفي الوزارة “انت متظاهر ضد الحكومة وتريد منها عوناً! اذهب الى المنزل قبل أن ينجزوا الأمر ويقتلونك”.

يأس حيدر من إمكانية استرجاع وجهه، ودفعه قلقه من البقاء في العراق لاتخاذ قرار الهجرة الى المانيا بطريقة غير شرعية. توجه الى بيلاروسيا حين فتحت مينسك فتح حدودها للراغبين بالهجرة الى اوربا كورقة ضغط في اطار صراعها مع الاتحاد الاوربي.

نجح الشاب عاشق الموسيقى، في عبور الحدود البلاروسية الى بولندا بعد رحلة امتدت لأربعة أيام سيرا في الغابات الخطرة، وهناك كان ينتظره مهرب اتفق معه مسبقاً على نقله الى المانيا، وحصل ذلك سريعا.

“فور وصولي الى المانيا اهتموا بحالتي وعينوا لي طبيباً نفسياً وخصصوا لي راتباً شهرياً كما تكفلوا بعلاجي واجروا لي أكثر من عملية تجميلية ومازالت رحلة علاجي مستمرة” يقول بينما تلتمع الدموع بعينيه ويضيف “ستعيد لي الحكومة الألمانية وجهي الذي سلبته المليشيات”.

يتابع، متهما جماعات مسلحة موالية لايران بما حصل للمحتجين على الفساد وعلى سلب قوة وسيادة الدولة العراقية لصالح نظام آخر “كثيراً ما كنا نسمع بوجود ملثمين يطلقون النار او يعطون التعليمات، ملثمون يرتدون السواد ويتحدثون بغير العربية. لم أكن اصدق حتى رأيت القنبلة التي أصابتني مكتوب عليها عبارة صنع في ايران. مازلتُ احتفظ بها في بيت أهلي ببغداد فهي شاهدة على الموت الذي كنا نواجهه”.

“هربوني من المشفى بحاوية نفايات”

تؤكد شهادات لناشطين، بأن حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي، لم تلتفت الى الثلاثة آلاف اعاقة التي خلفتها عمليات قمع تظاهرات تشرين 2019 وما تبعها، بل على العكس ، يقولون بأن عناصر الميليشيات لاحقت الجرحى في المستشفيات.

لم يرَ مهند باش (38 عاماً) أطفاله الأربعة منذ اكثر من سنتين لكنه يتلمس وجوههم ليتحسس ملامحهم ويستشعر مدى كبرهم، بعد أن افقدته رصاصة البصر.

كان مهند يحشد للاحتجاجات ويقود أحيانا تظاهرات، كان آخرها يوم 17\2\2020 يوم أصابته بندقية صيد برصاصة في رأسه، أطلقها عليه واحد من عناصر الأمن الذين حاولوا منع التظاهرة.

في منتصف ذلك الشهر كان التيار الصدري، قد بدأ بتغيير سياساته وتحول من مشارك قوي في التظاهرات الى معارض لها. ورفع الصدريون خيامهم من ساحة التحرير يوم 16 شباط فبراير مقتنعين بأن ذلك سينهي الاحتجاجات.

في اليوم التالي جرت عدة تظاهرات لدعم المحتجين في ساحة التحرير، كانت احداها تظاهرة طلابية قادها مهند مع عدد من أصداقه. وتوجه المتظاهرون من التحرير الى ساحة الخلاني القريبة حيث كانت قوات مكافحة الشغب بانتظارهم.

“ما أن دخلنا الى الساحة حتى بدأوا بمنعنا من التجمع، رأيت حينها أربعا من الجنود يهاجمون احدى الطالبات ويضربونها ويقومون بسحلها فتدخلتُ لانقاذها من بين أيديهم، لكن أحدهم وجه الي بندقية الصيد واصابني في جبهتي، استدرتُ على الفور واعطيته ظهري فأصابني برصاصة أخرى في ظهري”.

سقط بعدها مهند ولم يشعر بشيء لكن عناصر مكافحة الشغب قاموا بسحله وضربه بالهراوات، بحسب رواية أصدقائه، قبل أن يتم تحريره من بين أيديهم وينقل الى مستشفى الشيخ زايد.

“افقتُ في المستشفى دون أن أبصر، لكنني كنت أشعر بالفوضى من حولي، أخبروني بأن الأطباء شكلوا درعاً بشرياً لحمايتنا من ملاحقات عناصر الشغب الذين كانوا يبحثون عن نشطاء وقاموا بقتل اثنين من المصابين في المستشفى”.

لم يجد الأطباء متسعاً من الوقت لإخراج الرصاص من جسد مهند، بسبب ملاحقات مكافحة الشغب، فتم إيقاف النزيف وتضميده، ومن ثم تهريب مهند مع مصابين آخرين بواسطة حاويات النفايات الطبية الى مدينة الطب حيث ظل راقداً لتسعة أيام.

“اخرج الطبيب الرصاص من رأسي ومن ظهري، وأعلمني بفقدي للبصر.. كان العتمة تطوقني .. هي تطوق روحي وأحلامي… لن أرى اطفالي يكبرون ولن أرى زوجتي واصدقائي الذين يتكفلون بمعيشتي منذ الحادثة”.

رفض مهند، كما يقول، الترويج لمعاملة العلاج خارج العراق على حساب وزارة الصحة “بسبب تسييس ملف الجرحى”.

التوقيع على ورقة فارغة

لم يثن تعدد الإصابات التي تعرض لها الناشط أحمد علي (25 عاماً) استمراره في تغطية الاحتجاجات وتوثيق الانتهاكات التي كانت تمارس ضد المتظاهرين اذ كان يحرص على تصوير ما يحدث في ساحة التحرير وارساله الى اصدقائه في تركيا وشمالي العراق لنشرها على مواقع التواصل بسبب انقطاع الانترنيت في وسط وجنوب البلاد.

يؤكد أحمد، الذي تركز نشاطه في مجال التصوير، بأن كل من حمل كاميرا أو صور بهاتفه كان يُعد عدوا وبالتالي هدفاً للمسلحين من رجال الأمن والمليشيات والقناصين.

يقول ” تعرضت لإصابتي الأولى في يوم 27 تشرين الاول اكتوبر 2019 حين احترقت ساقي نتيجة انفجار قنبلة صوتية بقربي. أما الثانية فقد حدثت في 24 كانون الثاني/يناير 2020 حين اعتقلتني قوات مكافحة الشغب قرب خط سريع محمد القاسم وبدأوا بضربي وتعذيبي داخل سياراتهم وحاولوا كسر ساقي لئلا أعود الى الاعتصام، ثم رموني في منطقة النهضة”.

نقل أحمد، أثر ذلك الى مستشفى الشيخ زايد، وهناك تلقى العلاج قبل أن يأتي ضابط شرطة ويحاول ارغام شقيقه الذي كان يرافقه في تظاهرات التحرير، على التوقيع أسفل ورقة فارغة مع تهديده.

كانت قوات الأمن قد اعتادت على تلك الخطوة، إذ يتم تهديد النشطاء والمتظاهرين بإفادات واعترافات ملفقة وقعوا عليها مقابل إطلاق سراحهم.

نتيجة للتعذيب الذي تعرض له، عانى أحمد من صعوبة في المشي، لكنه بقي معتصماً في التحرير يرفض العودة الى منزله. إلا أن تلقى إصابته الثالثة، وهذه المرة بطلقات بندقية صيد في ساحة الخلاني يوم 18 شباط/فبراير 2020 حين كان يصور بكاميرته حالات اشتباك بين متظاهرين والمسلحين.

“تلقيت ثمانية رصاصات دفعة واحدة، الأولى في رأسي والثانية في صدري، واثنتين في ساعدي الايسر، وثلاثة في كفي الايسر وواحدة في كفي الأيمن واثنتان في كاميرتي. كان المسلحون يرتدون ملابس عسكرية دون دلالات على الجهة التي ينتمون اليها ودون رتب”.

نُقل أحمد سريعا الى مستشفى الشيخ زايد، لكن الطبيب هناك رفض استخراج الرصاصات واكتفى بتضميده وطلب من أصدقائه ابعاده عن المستشفى خوفاً من ملاحقة المسلحين له.

“رغم خطورة إصابتي أخذوني الى المنزل، وأحضر أبي طبيباً على الفور ليُقَيم حالتي فنصحنا بالذهاب الى مستشفى مدينة الطب دون تأخير “هناك اخرجوا قسماً من الرصاصات وامتنعوا عن اخراج الباقي بسبب حساسية أماكنها”.

بعد أيام ومع رفع بعض الضمادات اكتشف الشاب الذي أصابه النحول، عدم قدرته على تحريك ثلاثة من أصابع يده اليسرى. لاحقا اضطرته حالته الصحية والمالية الى بيع كاميراته ومعدات التصوير الخاصة به لشراء سيارة بسيطة ليعمل عليها سائق أجرة.

كان المصور الشاب يخطط لفتح استوديو كبير للتصوير، لكنه الان يعمل في معارض السيارات وسائقاً لسيارة أجرة، على أمل جمع المال المطلوب لإكمال علاجه. يقول بأنه تخلى عن الترويج لمعاملة علاجه على حساب وزارة الصحة، بسبب إهمال اللجان الطبية لحالته وتعقيدات الروتين الحكومي.

اللجوء للقانون في مواجهة السرايا

ترك محمد جواد (37 عاماً) وهو ناشط آخر تعرض لإصابة شلت حركته، طفلتيه في مدينة النجف ليتوجه في نيسان/أبريل2022 مع زوجته الى المانيا بتنسيق من وزارة الصحة، لكنه الآن يسكن في فندق بالعاصمة برلين على حسابه الخاص، على أمل ان تساعده منظمات المانية مختصة بعد أن رفضت وزارة الصحة تحمل تكاليف تصحيح الأخطاء الطبية التي عولج في ضوئها بالعراق.

محمد كان يعمل محاسباً في شركة تحويل مالي بمدينة النجف ويشارك بنحو يومي في التظاهرات في ساحة الصدرين مع اصدقائه، وتواجد باستمرار في خيمة اعتصام طلاب كلية الإدارة والاقتصاد، على الرغم من مخاطر مواجهة رصاص (الطرف الثالث) وهذه تسمية ظهرت إثر نفي أجهزة الحكومة كما المليشيات ضلوعها في إطلاق النار، فتم افتراض وجود طرق ثالث.

يقول “كنتُ وقتها افكر بابنتي التي تبلغ من العمر سنتين، وابنتي التي انتظر ولادتها، اردتُ المطالبة بمستقبل افضل لهما، لكن رصاصتين استقرتا في ظهري وحالتا دون استمراري في التظاهر. حصل ذلك مساء 29 تشرين الثاني 2019 حين هاجم مسلحون ينتمون لسرايا عاشوراء التابعة لقائد تيار الحكمة”.

كان محمد يحمل هاتفه ويصور الهجوم، حين انطفأت انوار الساحة واطلق سيل كثيف من الرصاص باتجاه المتظاهرين وكان نصيبه منها رصاصتان أضرتا بالحبل الشوكي والفقرتين الخامسة والسادسة.

“نقلتني ستوتة الى المفرزة الطبية ومنها الى مستشفى الصدر، استقبلني الأطباء هناك وهمس أحدهم لي (انطق الشهادتين) ثم نقلوني الى الإنعاش الرئوي نتيجة تضرر رئتي، بعدها بأسبوع اجروا لي عملية لاستخراج الرصاصتين وتثبيت الفقرات”.

خطورة وضع محمد الصحي، دفعت عائلته للتخطيط لنقله الى تركيا أو الهند، لكن الأطباء رفضوا ذلك لأن حالته لم تكن تحتمل السفر، فنُقل بسيارة اسعاف الى مستشفى الكفيل في كربلاء، وهناك أجريت له عملية استسقاء الحبل الشوكي لكنها لم تنجح وتسببت له بشلل نصفي في الجهة اليمنى.

مع المضاعفات التي تعرض لها، ولحاجته للعلاج الدائم، اضطر المحاسب الذي كان يأمل بمستقبل أفضل الى بيع سيارته وارض سكنية يملكها وإنفاق ثمنيهما على علاجه، في وقت تخلت الحكومة عنه، كما يتهمها

هو اليوم ينتظر في المانيا حصوله ومن خلال منظمات مدنية على المساعدة التي تمكنه من اجراء العملية التي قد تعيد له الإحساس بالجهة اليمنى من جسده.

محمد الذي بات أسير كرسيه المتحرك وواقع حاجته الدائمة لمن يساعده، لم يمنعه عجزه عن المشاركة في التظاهرات، من القيام بما يستطيع لمواجهة من أرادوا قتله “لجأت للقانون ورفعت دعوى قضائية ضد قادة سرايا عاشوراء. للأسف القضية لم تتقدم خطوة واحدة باتجاه محاسبتهم “اخذوا افادتي وقالوا لي اذهب وسنتصل بك”.

تتولى زوجة محمد رعايته وتعينه على الأكل والشرب والحركة، أما ابنتاه فيرعاهما أحد أشقائه في النجف، بانتظار حل يجمع شمله بهما.

تواصلنا مع وزارة الصحة العراقية، بشأن برنامجها لعلاج جرحى تشرين وأعداد من سيشملهم البرنامج والمعوقات التي تواجههم، لكنها لم تزودنا بأية معلومات عن تفاصيل ملف الجرحى، واكتفى المتحدث باسمها سيف البدر بالقول أن الوزارة “قدمت ما تستطيع وأن البيانات الصادرة عنها توضح كل ما يخص هذا الملف”.

وكان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد تعهد مرات عدة بالقيام بكل ما يلزم من أجل معالجة ورعاية جرحى تشرين. ووعد في ٢٠ حزيران/يونيو2022 خلال مقابلته لعدد من الجرحى بأنه “سيتابع ملفاتهم حتى بعد استكمال العلاج”، وأكد بأنه على استعداد “لتوفير العلاج أينما استلزم الأمر”.

يرى الناشط علي عباس ان أحلام شباب تشرين الذين ضحوا بحياتهم لتحقيق “حياة أفضل” تحطمت في ظل “تسويات وصفقات سياسية ولوائح وعود اصلاحية أبقت في النهاية كامل الطبقة الحاكمة منذ نحو عقدين باسم المحاصصة والمذهب والقومية” وفقاً لتعبيره.

يضيف الشاب الذي يدير منظمة صغيرة تهتم بالحراك الاحتجاجي :”لم تكتف باجهاض الحركة الاصلاحية، بل زرعت اليأس في نفوس شبابها عبر تشكيل حكومة عاجزة لم تستطع تحسين الخدمات والأمن ولا استعادة الدولة وهيبتها المفقودة، بل ولم تقم حتى بفتح ملف محاسبة القتلة ولا حتى الايفاء بوعود علاج وتعويض ضحايا القمع”.

يؤكد أكرم عذاب، وهو ناشط مدني يرافق واحداً جرحى تشرين في المانيا، بان “اغلب الحالات ساءت بسبب تأخر علاجها فجميعهم مضى على اصابتهم أكثر من سنة وهذا ما زاد من احتمال عدم شفائهم”.

ويقول عذاب “خذلت وزارة الصحة الجرحى، رغم تخصيص خمس مليارات دينار لعلاجهم، اذ رفضت دفع تكاليف اجراء عمليات جراحية تساعد في شفائهم بالتدريج وتخفيف الآثار الجانبية للإصابات، ووجهت بدفع فقط تكاليف العمليات التي تُنتج شفاءً تاماً او تغييراً جذرياً وهذا محال حسب ما ذكرته اللجان الطبية هنا”.

انجز التقرير بدعم وتحت اشراف شبكة “نيريج” للصحافة الاستقصائية ونشر على موقع درج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *