خضر دوملي *
تعرضت الاقليات الدينية في العراق من 2003 والى الان الى موجات من عمليات الاستهداف الممنهج وصلت الى القتل الجماعي على أساس الهوية والتصفيات الجسدية الفردية والتهجير القسري داخل البلاد وخارجها والاستيلاء على الممتلكات والاراضي.
وعانى الايزيديون والمسيحيون والبهائية والمندائية والكاكائية في مختلف المناطق التي يقطنوها بمحافظات نينوى وكركوك وديالى ومحافظات الجنوب فضلا عن بغداد، من حملات استهداف ممنهجة وعلى مدى عشرة اعوام قبل ان تصل الى ذروتها مع سيطرة تنظيم داعش على مناطق واسعة من البلاد ارتكبت فيها جرائم ابادة جماعية ضد الايزيدية وجرائم حرب وجرائم ضد الانسانية بحق المسيحيين والكاكائية والشبك والتركمان الشيعة في صيف 2014.
ومع استمرار التحديات التي تقف في طريق استقرار وعودة النازحين من الاقليات الى مناطقهم وعدم تحقيق العدالة، عكست العديد من وسائل الاعلام هذه الجرائم والممارسات في العديد من البرامج والتغطيات الميدانية، ولكن مايزال المشهد غير واضح لجميع العراقيين بشأن ما حصل ويحصل؟ وكيف حدث ذلك وما خلفياته؟ وماذا يقع على عاتق مؤسسات الدولة العراقية من مسؤولية تجاه هذه الجرائم؟
عدم الوضوح يأتي بسبب تأثير السياسات الاعلامية المؤدلجة على التغطية الاعلامية بشكل عام وتجاه قضايا الاقليات بشكل خاص، وتأثر القائمين بانتاج المواد الاعلامية بانتماءاتهم القومية والمذهبية وبالتالي فرض تلك الانتماءات في البرامج الاعلامية من خلال اعداد برامج وتقارير غير موضوعية ومؤدلجة وصلت ذروتها بتسيسس الاسئلة عقائديا او فرض التوجهات على الحوارات الاعلامية المختلفة للإنتقاص من بعض الاقليات بسبب مواقفها السياسية وولاءاتها وتحالفاتها واحيانا أخرى بسبب ضعف قدرة ومهنية القائمين على هذه البرامج وعدم أطلاعهم على الاسس المهنية الخاصة بتغطية قضايا الاقليات الدينية.
أن النظر الى مكانة الاقليات الدينية في وسائل الاعلام العراقية منذ 2003 والى الان يبين ان المشهد لايزال غير متوازن، لا في المكانة، ولا في الدور، ولا في التغطية، ولا في رسم السياسات الاعلامية . أذ ان الانفتاح الاعلامي وضع الاقليات في مرمى التغطية غير المهنية وكأن الابواب فتحت على مجتمعات ومكونات من عالم آخر فالمعلومات التي تخصهم في غالب الأحيان خاطئة.
ويمكن ملاحظة غياب المهنية وسيادة طريقة العمل وفق المنظور السياسي والعقائدي للكثير من القنوات التي تتناول قضايا الاقليات الدينية. واصبحت هذه الصيغة هو الاساس وليس المهنية و الاخلاقيات ومراعاة المسؤولية الاجتماعية، اذ قدمت الكثير من التقارير والقصص والبرامج الحوارية، التي كان الاستهداف فيها مرسوما على منهجيات سياسية بحتة او تشويه العقيدة بشكل مباشر او غير مباشر، والامثلة كثيرة فيما يخص تغطية قضايا الانتهاكات التي تخص المسيحيين والايزيديين والمندائيين والكاكائية .
استمرت التغطية العشوائية البعيدة عن الاسس المهنية لقضايا الاقليات الدينية، خاصة تناول ما تعلق بقضايا الاستهداف والانتهاكات تجاه الاقليات الدينية في وسائل الاعلام.
في حين غابت العديد من القضايا الاساسية التي تخص شؤون الاقليات، عن المشهد (الانتهاكات من اطراف حاكمة– عمليات التصفية والاستيلاء على الاموال والاملاك – المشاركة السياسية) وأزداد العمل على أبراز الصورة التي تبين تبعية الاقليات للاحزاب الكبيرة او الولاءات السياسية والانتقاص منها وفقا لمنهجية وعمل المؤسسات الاعلامية وتوجهاتها.
كما تراجعت التغطية التي تبين التغيير الديمغرافي الحاصل في مناطقهم ودوافع الهجرة والنزوح من مناطق سكناهم الاصلية والتحديات التي تخص فقدان ثقة الاقليات بمؤسسات الدولة وتحقيق العدالة، بحيث هناك مناطق أفرغت من المسيحيين والمندائيين والايزيدية دون أن يكون للأعلام صوت او مساهمة فاعلة لمخاطر ذلك التغيير والتهميش والاساءة المستمرة .
ومنذ انتهاء الحرب على تنظيم داعش والى الان تتبدل وتتغير خارطة مناطق الاقليات بشكل متسارع وخاصة في سهل نينوى / سنجار / داقوق ولم تتغير على ضوئها التغطية الاعلامية لقضايا الاقليات حيث باتت الصور الابرز الى حد انها أضحت منهجية لدى بعض وسائل الاعلام هو التركيز على الانقسام داخل مجتمعات الاقليات أكثر، وتفتيت الاقليات وأضعاف مكانتها والترويج لخطابات الكراهية.
والاسوء من كل هذا هو عدم مهنية وسائل الاعلام في تناول قضايا ومشاكل الاقليات التي تخص ضمانة حقوقهم الدستورية، وأن فعلت او ساهمت فأنها ترتكب الخطأ بشكل مضاعف عندما تقوم باستضافة أشخاص ليسوا من أهل الاختصاص – يتم الاتفاق معهم أحيانا حتى على طريقة اثارة الموضوع و بناء التبريرات – ويتورطون في مهاجمة وتسيس الموضوع وجعله أكثر تعقيدا، والادهى من كل هذا انهم لايعرفون مسؤولية الجهات ذات العلاقة.
والامثلة على ذلك كثيرة خاصة في الفترات التي تشهد حصول مشاكل للمجتمع الايزيدي او المسيحي، حيث يلاحظ تسابق القنوات الاعلامية على استضافة شخصيات لا هم لها سوى الهجوم والتشهير والاساءة للمكونات والخروج عن قواعد الحوار فيما كادر ادارة البرنامج يكتفي بالتفرج او الابتسام.
في جانب اخر تتزحزح مكانة الاقليات في التغطية الاعلامية الى أدنى مستوياتها من خلال التناول غير المهني لقضايا الاقليات وخاصة ما يتعلق بتعويم وتصغير المشاكل التي يعانون منها او تعويم القضايا الاساسية اعلاميا ، وفرض الهويات وتمرير التسميات بصورة مشوهة ( القومية الايزيدية مثالا، الصراعات او الانشقاقات بين المسيحيين، او عدم اتفاق الكاكائية على تسمية وتوصيف موحد لهم) دون أن يعرفوا اي شيء عن تاريخ وتراث هذه الديانات او ربط الواقع بالصراعات السياسية بين الكتل والجماعات السياسية والجماعات المسلحة وفرض تلك التوجهات على الواقع الحقيقي لها.
ان متابعة بسيطة لنتائج الجرائم التي ارتكبت ضد الاقليات من قبل تنظيم داعش وخاصة جريمة الابادة الجماعية الايزيدية وجرائم الاغتصاب وسبي النساء ومدى ضخامة تلك الجرائم وما نتج عنها ومقارنتها بمستوى التغطية الاعلامية، سيضعنا امام مشهد صادم لأن غالبية لا بل الاغلبية الساحقة منها لاتعرف المسؤوليات والمعايير التي على وسائل الاعلام اتباعها للتعامل مع هذه النوعية من الجرائم والاثار الناتجة عنها، خاصة انه هناك اعتبارات خاصة تحكم تلك الجرائم وهناك توصيف دولي محدد لها ( جرائم الابادة الجماعية – جرائم الحرب – جرائم ضد الانسانية – جرائم الاغتصاب الجنسي ) اذ في الغالب تتميز التغطية الاعلامية بأنها من منظار سياسي بحت، وفي الغالب يتم تناولها كأي حدث سياسي لا أكثر.
في الجانب الاخر هناك غياب تام او شبه تام لصناعة المادة الاعلامية التي تعزز المشتركات او تساعد على بناء الحوار والثقة، بأعتبار ان تلك الجرائم التي ارتكبت قد أدت الى انهيار الثقة، وهنا يمكن ملاحظة ان التغطية الصحفية في غالبية وسائل الاعلام التي تناولت احداث التوتر في سنجار الذي حصل في نهاية نيسان 2023 عندما تم اعادة عوائل متهمة بالتعاون مع داعش وما رافقها من اتهامات بحرق مسجد للمسلمين، ذهبت في مسار توجيه التهم للايزيدية ومحاولة زرع خارطة حولت فجأة الضحية الى جلاد، في ظل غياب المهنية والتدقيق والتحقق كما التغطيات التي تراعي خصوصيات المجتمعات المتضررة من النزاع، وخاصة ان النزاع في المنطقة لايزال مستمرا.
بقيت القنوات الاعلامية تقدم تغطية تقليدية تساعد على تمرير الصور النمطية تجاه الاقليات والابتعاد عن عرض المشكلة الحقيقية، الامر نفسه تكرر في موضوع الصراع والتوتر بين نيافة البطريارك لويس ساكو وحركة بابليون.
في شأن اخر من شؤون الاقليات أعلاميا يمكن معرفة وتشخيص مكانة الاقليات في برامج السلام وتغطيتها واذا ما كانت هناك اليات وخطوات لتعزيز مكانة الاقليات وتعزيز الدور الاعلامي في هذا المجال، وخاصة ان هناك الكثير من برامج التماسك الاجتماعي وتعزيز التواصل وبناء الثقة يجري العمل عليها. وبات هذا الضعف او الهشاشة في عدم وجود برامج بناءة للثقة والجسور، ليصبح المشهد السائد أن “لا شيء جرى ويجري لبناء الثقة”، لأن المعرفة بماهية اعلام السلام ضعيفة وغائبة سواء لدى العاملين في شبكة الاعلام العراقي التي تقع عليها المسؤولية الاكبر او على بقية القنوات ايضا.
لكن في الجانب الاخر فأن دور اعلام الاقليات لم يكن بالمستوى المطلوب واصبحت التغطيات شائكة ومعقدة لان التقليد او التأثر بالانتماءات او أتباع اسلوب المواجهة افقدته القدرة على وضع استراتيجية سليمة والمسك بزمام الامور و تقديم الرسالة الصحيحة، الا ما ندر في بعض المنصات التي حاولت وتحاول باستمرار ان تقدم صورة حقيقية لوضع الاقليات، ولكنها تفتقر الى الادوات والدعم المالي المناسب لتصبح مصدرا للاخبار التي تخص شؤون الاقليات ولتكون مصدرا لبقية المؤسسات الاعلامية العراقية لتنقل عنها الكثير من المواد الجيدة والدقيقة.
ان هذا يتطلب وضع سياسات اعلامية تأخذ العمل وفق المعايير المهنية التي تساعد على تغطية مهنية لقضايا الاقليات الدينية وعدم مزجها بالصراعات السياسية، ونقل الحقائق من منظور مهني، و الابتعاد عن لغة التحريض والاستناد الى المصادر غير الدقيقة أو غير المختصة، اذ كثيرا ما يتم اللجوء- عندما يصعب الوصول الى مصادر مهنية- الى تلفيق القصص وفبركة المعلومات ما يجعل الاقليات في مرمى الاستهداف والتحريض وخطابات الكراهية التي تنتقل الى صفحات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.
ذلك النقل غير الدقيق والذي يشجع على التحريض يتسبب في فقدان ثقة الاقليات بالوضع وبمستقبل وجودها وشعورها بالاستقرار، وهذا ما يدفع المؤسسات الاعلامية ذات الصبغة الدينية للتوغل في الساحة وتوظيف تلك الصراعات لابراز مكانتها ورعايتها “الابوية” للاقليات وفرض الهويات والانتماءات عليهم.
وذلك يؤدي الى غياب قضايا الاقليات عن التغطية الصحيحة، واستمرار سيادة الصور النمطية والتهم الجاهزة المدفوعة بالانتماءات والتحالفات السياسية، وفرض التسميات والتشجيع على الهجرة وترك البلاد، في ظل غياب دور مؤسسات المراقبة والمحاسبة وخاصة دور النقابات الصحفية او المدعي العام للتدخل في بعض القضايا التي قد تشكل منعطفات مهمة اذا ما تم العمل على انصاف الاقليات وعرض ذلك في وسائل الاعلام من منظور مهني يراعي خصوصية الاقليات وأنتماءاتها وعقائدها.
لقد تطورت آليات العمل الاعلامي بشأن القضايا الدينية ومشاكل الاقليات الدينية بشكل كبير في السنوات العشر الاخيرة وهو ما يتطلب ان تهتم بها جميع وسائل الاعلام، لأنها العامل الذي يساعد على تحقيق التمييز الايجابي وضمان حقوق الاقليات من خلال تطوير مهارات القائمين بالعمل على قضايا الاقليات الدينية باعتماد المعايير الدولية واستنادا الى الخطوات التالية:
اولا – التعريف بالشكل الصحيح بواقع ومكانة وتاريخ وتراث الاقليات بعيدا عن التحريف و الاضافات التي تشوه صورتهم.
ثانيا – رصد وتوثيق واعداد البرامج وانتاج المواد الاعلامية بأعلى درجات المهنية خاصة ما يتعلق بالانتهاكات التي يتعرض لها الاقليات.
ثالثا – تغطية المشاكل التي تخص الاقليات في مناطقهم ومع المناطق المجاورة لهم بشكل يبين دور المؤسسات الحكومية وموضوعيتها ومهنيتها.
رابعا – التغطية المهنية الخاصة بتعزيز مكانتهم المجتمعية بين المجتمعات التي تحيط بهم والتحديات التي يواجهونها في هذا الخصوص.
خامسا – توفير المعلومات والتغطية الدقيقة التي تخص وجود وعدم وجود فرص المشاركة المجتمعية (السياسية) والتحديات التي تواجه تلك المشاركة والمعالجات الممكنة وخاصة ضعف او عدم تطبيق التشريعات والقوانين.
سادسا – كيف تساهم وسائل الاعلام المختلفة بتعزيز ادماج الاقليات في مستويات مختلفة من خلال برامج معلوماتية وبرامج حوارية هادفة وفاعلة تتميز بالتوازن والمهنية واعداد البرامج والمحتوى الاعلامي الذي يساعد على ضمان حمايتهم من التهميش والانتهاكات والاستهداف وضمان حقوقهم وفق الدستور والمعايير الدولية، التي حينها ستكون وسائل الاعلام عاملا حاسما في تحقيق السلم والاستقرار المجتمعي.
* ورقة عمل – مؤتمر – قريب الاعلامي – بغداد 17 حزيران 2023
*خضر دوملي، باحث ومدرب مختص في الاعلام وحل النزاعات وبناء السلام ومستشار في قضايا الاقليات khidher.domle@gmail.com
انتشرت افاق النزاع الطائفي والديني في وسائل اعلام بشكل غير مدروس، واصبحت الصحف ساحات لتبادل الاتهامات، و نقل تصريحات شديدة اللهجة، و تحمل في طياتها الكراهية والبغضاء واستغلت الجماعات المسلحة وسائل الاعلام فنشرت الافكار التكفيرية ،
الاقليات الضحية الاكبر للنزاع الديني في العراق