يعتقد كثيرون أنّ النظام يعمل كأي عصابة أو ميليشيا منفلتة عند ممارسة الاعتقال والإخفاء القسري. ذلك صحيح على مستوى العلاقة المباشرة التي كرّسها النظام في مواجهة مواطنيه المعارضين أو المشكوك في ولائهم له. لكن خلف ذلك توجد منظومة مترابطة من القوانين والتشريعات، وشبكة من مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والمدنية التي تعمل بطرق مختلفة على تغطية معظم تلك الجرائم بشرعية زائفة. يبحث هذا التحقيق في الفرضية القائلة أنّ النظام السوري لديه ملايين الوثائق الرسمية\الملفقة التي يمكن أن يدافع بها عن ممارساته حين تدق ساعة المحاسبة في أي وقت من المستقبل.
سلطان جلبي/ صحافي سوري*:
أواسط عام 2012 أرسل رئيس فرع الأمن العسكري في دير الزور آنذاك اللواء، جامع جامع، رزمة من وثائق تمديد الاحتجاز الفارغة إلى المحامي العام في المدينة، طالباً منه توقيعها.
رفض المحامي التوقيع وطلب من اللواء معلومات مفصّلة عن المحتجزين في فرعه ليقرّر من يستحق تمديد الاحتجاز ومن يجب إطلاق سراحه وفق ما ينص القانون.
بعد أيام قام عناصر من الفرع المذكور بإطلاق النار على منزل المحامي العام وسيارته متعمدين ألا يصيبوه. وفي اليوم التالي جلب الرجل الرصاصات الفارغة إلى مكتبه في المحكمة وعرضها على مجموعة من زملائه قائلاً: “لقد وصلتني هذه الرسالة”.
كان من بين الحاضرين القاضي، إبراهيم حسين، الذي روى لحكاية ما انحكت القصة. فيما بعد اعتاد رؤساء أفرع الأمن التابعة للنظام على وجود كميات من وثائق تمديد الاحتجاز الموقعة مسبقاً من النيابة العامة والمتاحة ليضيفوا إليها أسماء من يريدون من المعتقلين لديهم، وبالتواريخ التي يحددونها.
ميليشيا أم نظام؟
يعتقد كثير منّا أنّ النظام يعمل كأي عصابة أو ميليشيا منفلتة عند ممارسة الاعتقال والإخفاء القسري. ذلك صحيح على مستوى العلاقة المباشرة التي كرّسها النظام في مواجهة مواطنيه المعارضين أو المشكوك في ولائهم له. لكن خلف ذلك توجد منظومة مترابطة من القوانين والتشريعات، وشبكة من مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والمدنية التي تعمل بطرق مختلفة على تغطية معظم تلك الجرائم بشرعية زائفة، محاولةً إظهارها وكأنها إجراءات يمكن أن تتخذها أي دولة بحق مواطنيها الخارجين عن القانون.
يبحث هذا التحقيق في الفرضية القائلة أنّ النظام السوري لديه ملايين الوثائق الرسمية\الملفقة التي يمكن أن يدافع بها عن ممارساته حين تدق ساعة المحاسبة في أي وقت من المستقبل.
يستند التحقيق إلى نتائج تقصّي مئة حالة احتجاز نفذتها أجهزة النظام منذ عام 2011 بالتركيز على المسار القانوني الذي مرّت فيه كل منها. ويسترشد بآراء خبراء سوريين، بينهم قضاة ومحامون وأطباء، لتفسير تلك المسارات وفهم الطريقة التي تعمل بها المنظومة الأمنية والقضائية على إدارة عمليات الاعتقال والانتهاكات المرافقة لها مؤسساتياً، وعلى تغطيتها قانونياً. كما يعنى التحقيق بالتساؤل عن الفجوات التي يفشل النظام في تغطيتها، والتي يمكن أن تكون مدخلاً لدحض تزييفه للعدل.
قوانين “مجرمة”
استخدم المحامي السوري أنور البني، المختص بقضايا المعتقلين، مصطلح “القوانين المجرمة” في مقابلة أجرتها معه جريدة عنب بلدي السورية، ليصف منظومة من القوانين والتشريعات التي يستخدمها النظام السوري في تغطية انتهاك الحقوق الأساسية لمواطنيه. وبحسب خبراء قانونيين، فإن قصة استغلال التشريع لتغطية الإنتهاكات في سوريا قديمة.
ورث نظام حزب البعث مجموعة من القوانين عن الأنظمة الانقلابية التي سبقته في حكم سوريا، أبرزها مثلاً قانون السلطة القضائية لعام 1961 الذي هدم استقلالية القضاء بوضع رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى.
وسّع النظام من اختصاص القضاء العسكري ليشمل كل ما تراه المحكمة من اختصاصها. وبالطبع هناك أيضاً قانون مكافحة الإرهاب الشهير بنصوصه الفضفاضة “التي يمكن أن تحوّل أي عمل قمت به إلى جريمة إرهاب” على حد وصف الحقوقي والقاضي المنشق إبراهيم حسين.
لكن النظام عمل على تطوير القوانين “المجرمة” أكثر خلال العقود اللاحقة كما يقول القاضي السابق أنور مجني، والذي انشق عن النظام أواسط عام 2012 احتجاجاً على “تغول السلطة التنفيذية عن القضاء” ويعمل اليوم مستشاراً قانونياً في مدينة غازي عنتاب التركية.
يقول مجني لحكاية ما انحكت وشبكة نيريج “ما إن سيطر حزب البعث على السلطة حتى فرض حالة الطوارئ التي عطلت الدستور وشكّل قانونها المظلة الأوسع في التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان منذ عام 1963 حتى نيسان من عام 2011.. وخلال تلك السنوات سنّت قوانين المحاكم الاستثنائية كمحكمة الميدان العسكرية ومحكمة أمن الدولة، إلى جانب قانون إحداث جهاز أمن الدولة وتحصين عناصره من الملاحقة القضائية إذ هناك أكثر من قانون يمنع تحريك أي دعوة قضائية ضد عناصر الأجهزة الأمنية دون موافقة مدير الإدارة العامة للمخابرات في بعض الحالات، أو موافقة وزير الدفاع في أخرى. أي لن تستطيع ملاحقة المجرم الأصغر دون موافقة المجرم الأكبر”.
جاء الفصل الأخير من تلك القصة بعد اندلاع الاحتجاجات في سوريا عام 2011 حين اضطر النظام، نتيجة الضغوطات الداخلية والخارجية، لرفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة المرتبطة بها. لكنه سنّ في الأشهر التالية سلسلة من المراسيم والتشريعات الجديدة مكانها، من أبرزها تفويض مهام الضابطة العدلية إلى أجهزة الأمن والمخابرات المرتبطة بمكتب الأمن الوطني، تلك الأجهزة ذاتها التي حصّن عناصرها ضد الملاحقة القضائية سابقاً.
في الوقت نفسه، وسّع النظام من اختصاص القضاء العسكري ليشمل كل ما تراه المحكمة من اختصاصها. وبالطبع هناك أيضاً قانون مكافحة الإرهاب الشهير بنصوصه الفضفاضة “التي يمكن أن تحوّل أي عمل قمت به إلى جريمة إرهاب” على حد وصف الحقوقي والقاضي المنشق إبراهيم حسين في مقابلة هاتفية معه.
ثمان كيانات تشكّل منظومة للاعتقال والتغطية
جملة التغييرات تلك مكنت النظام من امتلاك قوة تنفيذية مفوّضة بمهام الضابطة العدلية، وهي محصنة ضد الملاحقة القضائية، وغير خاضعة لسلطة القضاء أو وزارة العدل أو حتى الداخلية. ضمّت تلك القوة بشكل أساسي أجهزة المخابرات الأربع التابعة فعلياً إلى مكتب الأمن الوطني، وهي: الأمن العسكري، المخابرات الجوية، الأمن السياسي، المخابرات العامة أو ما يعرف بأمن الدولة، ولكل من تلك الأجهزة بالطبع عشرات الأفرع موزعة في المدن السورية.
القوانين المذكورة أمنت مظلّة قضائية لتلك الأجهزة الأمنية من خلال أربع مؤسسات قضائية منفصلة عن بعضها البعض من الناحية الإدارية والقانونية، ومتداخلة بشدة من حيث الاختصاص.
إلى جانب القضاء العادي الذي أبعد عن التعامل مع المعتقلين على خلفية الاحتجاجات وتبعاتها بعد عامها الأول، هناك القضاء العسكري الذي يحاكم أمامه مدنيون، وهناك محكمتان استثنائيتان هما محكمة قضايا الإرهاب المذكورة، وأيضاً محكمة الميدان العسكرية أو كما يسميها سوريون بمحكمة “الإعدام العسكري”، والتي غالباً ما يحال إليها المعتقلون المصنّفون أكثر خطراً على النظام.
فإلى جانب القضاء العادي الذي أبعد عن التعامل مع المعتقلين على خلفية الاحتجاجات وتبعاتها بعد عامها الأول، هناك القضاء العسكري الذي يحاكم أمامه مدنيون، وهناك محكمتان استثنائيتان هما محكمة قضايا الإرهاب المذكورة، وأيضاً محكمة الميدان العسكرية أو كما يسميها سوريون بمحكمة “الإعدام العسكري”، والتي غالباً ما يحال إليها المعتقلون المصنّفون أكثر خطراً على النظام.
تضافر عمل الكيانات الثمان المذكورة وغيرها معاً، وشكلت ما يمكن تسميته بمنظومة الاعتقال والتغطية، والتي شغلها النظام بفاعلية منذ العام الأول من الاحتجاجات حتى قدّرت جهات حقوقية مرموقة (منها الشبكة السورية لحقوق الإنسان) عدد السوريين الذين تعرّضوا للاعتقال خلال السنوات التسع الماضية بحوالي 1.2 مليون معتقلة ومعتقل. فكيف تعمل تلك المنظومة؟
كيف تعمل منظومة الاعتقال والتغطية؟
تشكل علاقة الهيمنة التي فرضتها الأجهزة الأمنية على النيابة العامة، ومن خلفها القضاء عماداً لتلك المنظومة، “فهي التي مكنت تلك الأجهزة من احتجاز المواطنين وحجبهم عن السلطة القضائية أولاً، ومكنتها ثانياً من تمديد فترات التوقيف قيد التحقيق لأشهر وحتى سنوات دون أن تكون قد خرقت القانون من الناحية الشكلية، ومكنتها أخيراً من تحديد نوعية المحاكمات التي يخضع لها المعتقلون ونتائجها”، بحسب القاضي المنشق إبراهيم حسين، الذي يضيف: “في النهاية لا توجد رقابة من أي نوع على ما تقوم به أجهزة الأمن، وسلطتها الفعلية أعلى من سلطة الوزارات التي تتبع لها ومن سلطة القضاء ويمكن لأي ضابط صغير في جهاز أمن أن يهدد قاضياً أو يهينه دون عواقب”.
اعتقلت الطالبة الجامعية سحر زعتور (25 عاماً) من نقطة تفتيش تعرف بحاجز الراموسة في حلب، على خلفية مشاركتها في الاحتجاجات المناهضة للنظام داخل الجامعة. حدث ذلك في أواخر عام 2014، لكن تطلب الأمر حوالي ستة أشهر تنقلت خلالها بين أفرع الأمن العسكري من حلب إلى حمص ثم دمشق، حتى أحيلت إلى محكمة قضايا الارهاب في دمشق. فيما تطلب صدور حكم في قضيتها سنة أخرى حتى نجت في أواسط عام 2016. تقول سحر لحكاية ما انحكت: “لقد كنت محظوظة، صدر حكم بسجني لمدة عام بتهمة التستر على مجرمين وخرجت بعدها لأنني كنت قد قضيت في السجن أكثر من تلك المدة.. دفع أخي المغترب في السعودية رشوة كبيرة قضت على مدخراته، لكني شاهدت نساء دفع ذووهم ضعف ما دفعنا ولم يفلح الأمر معهم.. ما أن تعتقل حتى يتحول الامر كله إلى ضربة حظ، فليس لديك ضمانات ولا حقوق”.
من أصل حالات التقصي المئة في هذا التحقيق، تمت إحالة 44 منها فقط إلى القضاء، بينما تم إطلاق سراح عشر حالات مباشرة من قبضة أجهزة الأمن، غالباً بعد دفع رشى إلى ضباط ومسؤولين في النظام.
لكن على الضفة الأخرى، بقي هناك 46 محتجزاً لم يحالوا إلى المحاكمة حتى تاريخ إجراء المقابلات مع ذويهم في آذار 2020. حينها كان أحدثهم قد مضى على احتجازه قرابة أربعة أعوام.
هؤلاء باتوا بحكم المختفين قسرياً وفق القانون الدولي، بزيادة أنّ كل عائلات هؤلاء قد تأكدت بطريقة أو بأخرى من أن المحتجز موجود في مكان ما عند النظام.
يقول شقيق أحد المعتقلين منذ عام 2011 لحكاية ما انحكت أنه يأس من البحث عن شقيقه محمد (33 عاماً) المنحدر من مدينة شرق حلب. “بعد عامين من اعتقاله على حاجز في ريف اللاذقية تمكنا من زيارته في سجن الشرطة العسكرية في دمشق.. لازلت أحتفظ بورقة الزيارة حتى اليوم.. لكني فقدت أثر أخي بعدها”.
ما زال محمد مجهول المصير حتى تاريخ هذه المقابلة، ويتحدث ذووه عن أساليب مختلفة لتغطية اعتقال ولدهم، يشبهونها بـ “الثقب الأسود” الذي يبتلع كل أثر للمعتقلين.
عن أربع وأربعين معتقلاً
“حين يتعلق الأمر بالتحويل إلى المحكمة، فبكل بساطة القرار بيد رئيس فرع الأمن الذي يقبع فيه المعتقل، أما النيابة العامة هنا فلا دور لها سوى التوقيع”، هذا ما يقوله لحكاية ما انحكت محامٍ عمل حتى وقت قريب في سلك الدفاع عن المعتقلين داخل سوريا وفضل عدم ذكر اسمه.
يوضح المحامي أن رؤساء الأفرع الأمنية يأخذون القرار غالباً بالاستناد إلى تقديرهم لدرجة الخطورة التي قد يشكلها المعتقل على النظام، وذلك ما يحسم أيضاً ما هي المحكمة التي سيحال إليها المعتقل.
وخلف قرار الضابط المسؤول تلعب شبكة معقدة من العوامل، منها قوة الوساطات التي يمكن أن تسخرها عائلة المعتقل وقيمة الرّشى التي تستطيع دفعها، كما أنّ المنطقة التي ينحدر منها المعتقل وخلفيته الإثنية والدينية تلعب دوراً هي الأخرى، وبالتأكيد تدخل عوامل أمزجة الضباط ودرجة تشدّدهم.
يخبرنا إبراهيم حسين أيضاً أن “كل معتقل يحيله النظام إلى القضاء يكون قد غطّي على احتجازه قانونياً بالكامل”. والقانون المقصود هنا ليس القانون الذي يحمي المعتقل بل هو القانون الذي يحمي رجل الأمن حين يرتكب انتهاكاته.
ومن بين 44 حالة تمت إحالتها إلى القضاء، يبدو أن ورقة تمديد التوقيف الموقعة مسبقاً من النيابة العامة قد تغطي على احتجاز النصف ممن أحيلوا إلى القضاء خلال شهرين أو أقل من تاريخ اعتقالهم، إذ ينص القانون السوري أنه يمكن للضابطة العدلية توقيف الأشخاص على ذمة التحقيق لمدة أقصاها شهران بموافقة النيابة العامة.
لكن هناك بالمقابل 22 حالة أخرى أحيلت إلى المحاكمة بعد مدد توقيف طالت أكثر من شهرين، ومنها ما وصل إلى ثلاث سنوات، فكيف تمّت تغطية هؤلاء؟
تأخير إحالة المعتقلين إلى القضاء لأشهر وسنوات
في الواقع هناك أساليب أخرى عديدة تتبعها الأجهزة الأمنية للتحايل على القانون أو اللعب في المسافة بين النص والتطبيق لتمديد فترات الاحتجاز حسب إبراهيم حسين، منها مثلاً تأخير فتح الضبوط الأمنية.
“يمكن للشخص أن يقضي أشهراً في الفرع دون أن يقوم الفرع الأمني بفتح ضبط رسمي باعتقاله وإحالته إلى النيابة العامة، ذلك ما يمكنها لاحقاً من التلاعب بالتواريخ وجعلها متوافقة مع القانون. في حالات أخرى يتم توقيع أوراق إخلاء السبيل ثم إعادة التوقيف على ذمة تحقيق جديد، وغالباً في فرع أمني مختلف… وذلك دون أن يخلى سبيل الموقوف فعلياً”.
إلى هنا يمكن ربط كلام القاضي السابق بحركة التنقلات بين الأفرع الأمنية التي يبدو أن غالبية المعتقلين يمرون بها. فمن بين 44 معتقلاً، قال 36 أنهم مرّوا بأكثر من فرع أمني أثناء احتجازهم، ووسطياً زار كل منهم أربعة أفرع أمنية.
ذلك يعني إمكانية تبرير التوقيف دون محاكمة لمدة قد تصل إلى ثمانية أشهر دون أن تكون الأفرع الأمنية حتى هذه النقطة قد خرقت القانون من الناحية الشكلية. وبالنظر إلى أنه يوجد ضمن حالات التقصي من مروا بأكثر من أربع أفرع أمنية يمكن لنطاق التغطية القانونية أن تمتد لفترات أطول وأطول.
في نهاية تلك المحنة، ومن بين حالات التقصي الـ 44، أحيل 31 معتقلاً إلى محكمة قضايا الإرهاب في دمشق، فبعد تأسيسها عام 2012 باتت الوجهة الأولى لغالبية المعتقلين على خلفية الاحتجاجات المناهضة للنظام. ويقدر المركز السوري للدراسات القانونية أعداد المعتقلين والمطلوبين المحالة ملفاتهم إلى محكمة الإرهاب حتى نهاية عام 2014 بحوالي مئة ألف مواطنة ومواطن. بينما أحيل تسعة آخرون إلى القضاء العادي، وهؤلاء غالباً كانوا اعتقلوا خلال عام 2011 وقبل تأسيس محكمة الإرهاب.
أخيراً، أحيلت أربع حالات إلى المحكمة العسكرية، ثلاثة منهم مدنيون. ولم نصادف بين كل حالات التقصي أحداً أحيل إلى محكمة الميدان العسكري، مرد ذلك على الأرجح ليس قلة المحالين إليها، إنما قلّة الناجين منها، وهو ما سنتحدث عنه في فقرة لاحقة.
لقد كتب الكثير عن مقدار عدم عدالة محاكمات النظام السوري سواء، من قبل منظمات دولية أو حقوقيين، ولن نكرر الأمر هنا، فتلك المحاكمات في النهاية ليس إلا امتداداً للمعاملة الأمنية مع المعارضين أو المشتبه بمعارضتهم، لكن سنقوم بالتركيز على نقطتين هنا، وهما: على ماذا تستند المحاكمات؟ وإلى ماذا تنتهي؟
أوراق مجهولة يوقع عليها المعتقلون
اعتقل هيثم حسو (35 عاماً) من حاجز تفتيش في مدخل مدينة الرقة مطلع عام 2013 بينما كان عائداً من تركيا إلى مدينته القامشلي. وبعد أسابيع نقل إلى فرع فلسطين التابع للمخابرات الجوية في دمشق، وأحيل منه إلى محكمة الإرهاب بعد أربعة أشهر، بذلت خلالها عائلته جهوداً وأموالاً كثيرة حتى نجا.
يصف الشاب، لحكاية ما انحكت، صباح اليوم الذي نقل فيه إلى المحاكمة “أدخلوني إلى غرفة فارغة إلا من طاولة كبيرة في المنتصف. أجبروني على أن أجثو على ركبتي أمام الطاولة ووضعوا أمامي رزمة من الأوراق طالبين أن أبصم عليها.. أظن أنها بلغت ثلاثين ورقة.. كان عنصر الأمن يمررها أمامي بسرعة بالكاد تكفي لوضع بصمتي إلى حيث يشير. لم أتمكن من قراءة أي من تلك الأوراق ولم أستطيع إلا أن أبصم، فالجميع يفعل ذلك”.
حتى اليوم لا يعلم هيثم ما هي الأوراق التي تحمل بصمته في أرشيف فرع فلسطين، وهو ليس الوحيد فكثير من الناجين من الأفرع الأمنية يطيلون الحديث عن ولعها بالأوراق، أوراق قلّما تلفت الأنظار في سياق ما تحفل به قصص المعتقلين. لكن هل نعرف فعلاً ماهيتها؟
حتى اليوم لا يعلم هيثم ما هي الأوراق التي تحمل بصمته في أرشيف فرع فلسطين، وهو ليس الوحيد فكثير من الناجين من الأفرع الأمنية يطيلون الحديث عن ولعها بالأوراق، أوراق قلّما تلفت الأنظار في سياق ما تحفل به قصص المعتقلين. لكن هل نعرف فعلاً ماهيتها؟
يقول مصدرنا الذي فضل عدم ذكر اسمه “أرشيفات أجهزة الأمن هائلة، فيها يتحول الأبرياء إلى إرهابيين وقتلة فقط على الورق. غالبية المعتقلين يوقعون على اعترافات بجرائم وأعمال إرهابية لم يرتكبوها، وعلى إقرارات بأنهم لم يتعرضوا إلى التعذيب وإساءة المعاملة مثلاً أو تعهدات بعدم ممارسة أنشطة محددة”.
باستثناء تلك التوضيحات لا نعرف الكثير عما تخبئه أرشيفات أجهزة الأمن. لكن بطبيعة الحال، نعرف أنها تشكل الأرضية التي تستند إليها المحاكمات وتأخذها كأدلة لا تقبل التشكيك. ولعل ذلك يفسر كيف أن 90% من الدعاوى في محكمة الإرهاب مثلاً تحال تلقائياً من قضاة التحقيق إلى قضاة الجنايات، حسب المصدر.
تدعم بيانات حالات التقصّي قول المصدر، فمن بين الـ 44 حالة أفرج قضاة التحقيق عن أربعة منهم فقط، بينما أحيل الباقي كلهم إلى قضاة الجنايات.
وتظهر البيانات أيضاً أن 23 من المحالين إلى المحاكم حصلوا بطريقة أو بأخرى على قرار بإخلاء السبيل تحت المحاكمة، وغادر جميعهم البلاد أو خرجوا من مناطق سيطرة النظام بعد ذلك.
هيثم كان أحد هؤلاء وأخبرنا أنّ “إخلاء السبيل يعني منح فرصة للمعتقل للنجاة بنفسه، وهي فرصة لا يحصل عليها إلا من كان لديه عائلة تدفع بالوساطات والأموال، وبالنسبة لي ما إن خطوت خارج بوابة السجن حتى كان قراري واضحاً جداً.. لن أعود إلى هذا المكان مهما كلفني الأمر”.
يعيش هيثم اليوم في ألمانيا ويعمل ساعياً للبريد رغم أنه حاصل على مؤهلات جامعية. لا يمكنه العودة إلى المناطق التي يسيطر عليها النظام في البلاد، وكذلك هو الحال مع كل الذين أخلي سبيلهم تحت المحاكمة.
أما عدد الذين صدرت أحكام إدانة في حقهم فكانوا تسعة بأحكام تراوحت بين السجن لسنة والسجن المؤبد.
حكم الإدانة نفسه ليس أسوأ ما قد يحدث بالنسبة للمعتقلين. الأسوأ هو أن يبقى الملف عالقاً في المحكمة لأشهر وسنوات، لذلك تلجأ عائلات المعتقلين إلى شراء أحكام الإدانة كونها المخرج الوحيد حين تتعذر مسألة إخلاء السبيل.
لكن حكم الإدانة نفسه ليس أسوأ ما قد يحدث بالنسبة للمعتقلين. الأسوأ هو أن يبقى الملف عالقاً في المحكمة لأشهر وسنوات، لذلك تلجأ عائلات المعتقلين إلى شراء أحكام الإدانة كونها المخرج الوحيد حين تتعذر مسألة إخلاء السبيل.
أحد حالات التقصي الذي اعتقل في حمص بقي مسجوناً لمدة خمس سنوات على ذمة المحاكمة حتى دفع رشوة بمقدار أربعة آلاف دولار إلى القاضية المسؤولة على ملفه في محكمة الإرهاب لتصدر حكم إدانة بحقه وبعقوبة تساوي الفترة التي قضاها معتقلاً. أما الحالات الثماني المتبقية فقد نال خمسة منها فقط حكماً بالبراءة، فيما بقي ثلاثة آخرون معتقلين تحت المحاكمة.
كل تلك الإحالات والقرارات والأحكام القضائية تخلّف عشرات الوثائق القانونية الرسمية عن كل معتقل، وبالنتيجة يوجد لدى النظام اليوم، على أقل تقدير، مئات آلاف الاعترافات الموقعة، يقر فيها المعتقلون بارتكاب جرائم وأعمال إرهابية، وهناك عشرات آلاف الدعاوى والأحكام القضائية ضدهم على أقل تقدير. أضف إلى ذلك وثائق الضبوط الأمنية وما يلفق فيها من أدلة وشهادات، لكن تلك ليست كل الأوراق التي حضرّها النظام لأي مسار عدالة محتمل.
عن ست وأربعين مختفٍ قسرياً
” إنه حي وبصحة جيدة وموجود في فرع الأمن العسكري في مدينة حلب”.
” بعد أن أقمنا مجلس عزاء، عاد أحد الأشخاص وأخبرنا أن أحمد لا يزال على قيد الحياة في فرع المخابرات الجوية في دمشق”.
“إنه توفي تحت التعذيب عام منذ عام 2014”.
“تمت احالته إلى محكمة الميدان العسكري وحكم بـ 15 سنة سجن وموجود في سجن صيدنايا.. وهي أنباء غير أكيدة”.
تلك نماذج عن ردود أفراد من عائلات المختفين قسرياً عند سؤالهم عن آخر المعلومات التي يعرفونها عن أبنائهم. لا شيء مؤكد بالنسبة لهم سوى أن الأبناء احتجزوا من قبل النظام، وأن الأخير يرفض الاعتراف بوجودهم.
الانتهاكات في حالة هؤلاء المحتجزين تبدو وكأنها غير قابلة للتغطية، وذلك يشكل فجوة مهمة في عملية التغطية القانونية التي يتبعها النظام، فلا يوجد قانون يمكن أن يبرر الاحتجاز والإخفاء لسنوات.
لكن لعل هناك ما يحدث وراء مشهد الانتهاك الأقصى هذا، ونتحدث هنا عن أدوار مرجحة لمحكمة الميدان العسكرية، وللمستشفيات العسكرية التابعة للنظام في التغطية على جرائم الإخفاء القسري.
تعد محكمة الميدان العسكرية من أخطر المحاكم في سوريا كونها محكمة استثنائية، أي غير ملزمة بإتباع قانون أصول المحاكمات السوري، وسرية في نفس الوقت، يقول مصدرنا الذي فضل عدم ذكر اسمه “لم يسبق لأحد منا أن اطلع على حكم صادر عن محكمة الميدان، فالعملية كلها تبقى سرية من الإحالة إلى المحاكمة وصولاً إلى تنفيذ الأحكام”. وإلى ذلك يضيف القاضي أنور مجني أن “النظام استخدم هذه المحكمة سابقاً في التغطية على إعدام آلاف المعتقلين في سجن تدمر العسكري منذ الثمانينات”. بالتالي يمكن ترجيح أن نسبة كبيرة من المختفين قسرياً قد يحالون إلى تلك المحكمة وتصدر بحقهم أحكام دون أن يعلم أحد بذلك.
يشرح تقرير لمنظمة العفو الدولية بعنوان “سوريا المسلخ البشري” كيف تعمل محكمة الميدان العسكرية بالتفصيل. وقدرت المنظمة أنّ عدد الذين حكم عليهم بالإعدام ما بين عامي 2011 و2015 في سجن صيدنايا وحده قد يصل إلى 13 ألف معتقل معظمهم من المدنيين. كما تشير تقديرات المركز السوري بأن أعداد السوريين المحالة ملفاتهم إلى محكمة الميدان العسكرية ما بين عامي 2011 حتى 2014 بلغ أربعين ألف شخص.
لعبت المستشفيات العسكرية دوراً مهماً في تغطية جرائم القتل نتيجة التعذيب وسوء المعاملة داخل الأفرع الأمنية من خلال إصدار تقارير طبية ملفقة تعزي الوفاة إلى أسباب طبيعية. فترسل تلك التقارير إلى إدارة السجلات المدنية ويقيّد الشخص كمتوفي وتنتهي القصة هنا كما يأمل النظام.
أما عن المستشفيات العسكرية، فيبدو أنها لعبت دوراً مهماً في تغطية جرائم القتل نتيجة التعذيب وسوء المعاملة داخل الأفرع الأمنية من خلال إصدار تقارير طبية ملفقة تعزي الوفاة إلى أسباب طبيعية. فترسل تلك التقارير إلى إدارة السجلات المدنية ويقيّد الشخص كمتوفي وتنتهي القصة هنا كما يأمل النظام.
أخبرنا سليم نمور في مقابلة هاتفية أجريناها معه من مكان إقامته في فرنسا، وهو طبيب عمل سابقاً في مستشفى تشرين العسكري في دمشق لمدة عشرة أعوام، أن جثث المعتقلين لم تكن تنقل إلى برادات المستشفى دون إرفاق ذلك التقرير، وأضاف “تلك التقارير تبقى سرية وباستثناء إرسال نسخ منها إلى السجلات المدنية لا يسمح لأحد بالاطلاع عليها”.
وعن المشهد داخل مستشفى تشرين العسكري يخبرنا الطبيب “مع انطلاق الثورة خصصت إدارة المستشفى قسماً لاستقبال المعتقلين الذين تجلبهم الأفرع الأمنية إلى المستشفى.. لم يكن يسمح لنا كأطباء في المستشفى بالدخول إلى ذلك القسم الذي كان ينتقي طاقمه بعناية من بين الكوادر الأكثر ولاءً للنظام، والذين مارسوا بدورهم التعذيب وإساءة معاملة المرضى والمصابين من المعتقلين داخل أقسامهم المغلقة، وكتبوا التقارير تقارير تزييف الوفاة لتختفي الجثث بعدها”.
شهادة الطبيب سليم نمور تعود إلى فترة انطلاق الاحتجاجات ضد النظام قبل أن يتعرض هو نفسه للاعتقال من مظاهرة في دمشق ومن ثم ينشق عن النظام.
ويبدو أن السنوات اللاحقة شهدت تطورات أخرى. يخبرنا مصدرنا الذي فضل عدم ذكر اسمه أنه مع تصاعد أعداد القتلى تحت التعذيب لم تعد الأفرع ترسل الجثث إلى المشافي العسكرية. “أصبح هناك أطباء يزورون الأفرع الأمنية بشكل دوري لإعداد تقارير الوفاة ومن ثم يحملونها إلى المستشفى، إضافة إلى الأختام الرسمية وتوقيع مدير المستشفى.. هكذا لا من رأى ولا من سمع”.
اليوم يحاكم طبيب سوري عمل سابقاً في مستشفى حمص العسكري بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بعد أن لجأ إلى المانيا، لكن مازال هناك عشرات وربما مئات الأطباء في المستشفيات العسكرية يشاركون في القتل وفي تغطيته.
لإبقاء باب العدالة مفتوحاً
من بين حالات التقصي المئة، قال 18 فقط أنّ بحوزتهم وثائق من أي نوع تثبت تعرّضهم للاعتقال. الباقي، سواء تمكنوا من النجاة أم لم يفعلوا، قد يصعب عليهم في موقف ما إثبات تعرّضهم للاعتقال من أساسه إن بقي النظام متحكّماً بالمؤسسات الأمنية والقضائية وأرشيفاتها.
في النهاية يعلم النظام أن لعبته مكشوفة إلى حد كبير، يعلم أنّ القوانين التي تخالف الدستور قد لا تشكل حماية قانونية له داخلياً، وأنّ التشريعات الوطنية المخالفة للعهود الدولية التي وقع عليها، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، لن تنجح في صيانة شرعيته دولياً. وسؤال الجدوى من وراء كل منظومة الاعتقال والتغطية التي يشغلها النظام يبقى رهناً بماهية إجراءات المحاسبة التي يخبؤها المستقبل، هل سيكون هناك محاكمات؟ هل ستكون محلية أم دولية؟ هل ستكون مستقلة أم مهيمن عليها من النظام أو المعارضة أو من قوى دولية؟ وحتى وإن أقيمت تلك المحاكمات، فما يراهن عليه النظام، على الأرجح، أنه ما زال الأكثر مهارة في ممارسة تلك اللعبة المكشوفة ومسك كلّ خيوطها المتشابكة بالمقارنة مع معارضيه، وحتى وإن لم تنجيه منظومته من المحاسبة، سيبقى قادراً على عرقلة تلك المساعي عبر إبطائها وتضليلها وإغراقها بملايين الوثائق.
انجو التحقيق بدعم مؤسسة نيريج ونشر على موقع “حكاية ما انحكت”
*صحافي وباحث اجتماعي سوري مقيم في تركيا، مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا.