النشطاء يتساقطون والحكومة تتفرج وتردد ذات الجملة “ستعلن النتائج حال اكتمالها”
أحمد حسن/ حزيران 2020:
في وقت مبكر من صباح التاسع من أيار/ مايو، أمام منزله في حي الحداد قرب العتبتين الحسينيتين في مدينة كربلاء المحصنة أمنياً، وقبل أن يوقف ايهاب الوزني سيارته، كان شخصان ينتظرانه على دراجة مركونة بجانب الطريق، اقترب أحدهما بخفة من نافذة السيارة وأطلق النار، ثم اختفيا سريعاً في الظلام، في مشهد اعتاد عليه العراقيون منذ انطلاق احتجاجات تشرين 2019.
باغتياله التحق مسؤول تنسيقية احتجاجات كربلاء بقائمة طويلة من زملائه المحتجين الذين قتلوا بالطريقة ذاتها في أكثر مدن البلاد أمناً، وأمام كاميرات المراقبة التي تنتشر في كل مكان، موثقة كل جريمة من دون أن تنتهي إلى اعتقال القتلة، لتحال ملفاتهم بعد حين الى الأرشيف وتسجّل الجريمة ضد مجهول.
بعد ساعات كانت محاولة اغتيال ثانية، هذه المرة استهدفت الصحافي أحمد حسن في محافظة الديوانية القريبة. استقرت إحدى الرصاصات في رأسه والأخرى في الكتف، ليدخل حسن في حال الخطر وينازع بين الحياة والموت في العناية المركزة.
برشقات النار الصارخة أو بالمسدسات الكاتمة تتوالى حوادث اغتيال الصحافيين والنشطاء على يد “فرق الموت” في بغداد ومختلف مدن الجنوب ذات الغالبية الشيعية، والتي خرج أبناؤها محتجين على فساد الأحزاب الحاكمة وأذرعها المسلحة، مطالبين بتحسين الخدمات وتوفير فرص العمل وضمان العدالة، قبل أن يواجهوا بالقمع والقتل والخطف، وتتصاعد سقوف المطالب إلى تغيير الطبقة الحاكمة.
90 محاولة و30 قتيلاً
منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2019، سجلت أطراف توثق ضحايا “احتجاجات تشرين” نحو 90 محاولة اغتيال، راح ضحيتها أكثر من 30 ناشطاً بارزاً وصحافياً، عدا الذين قُتلوا خلال المواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن وميليشيات في ميادين الاحتجاج.
في مطلع شباط/ فبراير 2020، أعلن عضو مفوضية حقوق الإنسان العراقية علي البياتي، عن تسجيل المفوضية 49 محالة اغتيال، قتل خلالها 22 شخصاً وأصيب 13، وباءت 14 محاولة بالفشل.
وبعد الموجة الأخيرة للاغتيالات، ذكر عضو مفوضية حقوق الانسان فاضل الغراوي، ان “89 محاولة اغتيال حصلت منذ انطلاق التظاهرات في عموم محافظات العراق، استهدفت ناشطين وإعلاميين ومدونين”، محذراً من “منزلق خطير للبلد يهدد الجميع إذا استمر مسلسل الاغتيالات والفوضى التي تريدها قوى الشر للعراق”.
تلك الأرقام تكشف أن الاغتيالات استمرت بالوتيرة ذاتها، حتى عقب تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة مصطفى الكاظمي في أيار/ مايو 2020، ففرق الموت واصلت عملياتها من دون تردد في ظل بقائها طليقة اليد ومجهولة الهوية وفق التحقيقات.
يقول ناشط بارز في ذي قار، رفض كشف اسمه خوفاً من الملاحقة: “سيقتلوننا واحداً تلو الآخر، هم يتحكمون بأجهزة الدولة بل صاروا الحاكمين فيها… سيقتلوننا طالما الحكومة تتفرج وتتستر على القتلة… أمامنا خيارين إما أن نترك مدننا وحياتنا وعائلاتنا أو نواجه الموت، حتى صمتنا لم يعد مقبولاً بالنسبة إليهم”.
يتابع الناشط الذي يعيش بعيداً من مدينته: “هنا تقريباً كل عمليات القتل الجنائية تكشف خيوطها خلال ساعات ويعتقل المتورطون فيها، فيما كل الاغتيالات يطول فيها التحقيق لأشهر ثم تقيد ضد مجهولين. الحقيقة أنهم عاجزون عن اعتقال المتورطين الذين يعرفونهم في معظم الحالات ويعجزون عن كشف الجهات التي ينتمون إليها”.
الوزني الذي عرف قاتليه
قبل مدة من مقتله ووسط مجموعة من المتظاهرين، كشف إيهاب الوزني، الذي سبق أن نجا من محاولة اغتيال في نهاية 2019 قتل خلالها صديقه فاهم الطائي، عن تلقيه تهديدات بالقتل، وخاطب مدير شرطة كربلاء: “لقد أرسلت لكم أسماءهم… أحملكم المسؤولية كاملة… أنا رجل مهدد اليوم”.
وتابع الوزني: “كل المتظاهرين مهددون… اكشفوا لنا هويات من يقف وراء قتلهم… أنتم مسؤولون عن حمايتنا… الكاميرات موجودة فاكشفوا هوية من حرق خيم المعتصمين. حاسبوهم بدل أن تحاسبوا المتظاهرين وتعتقلوهم. إذا لم تستطيعوا فتنحوا واتركوا المجال لكفاءات قادرة على حماية أمن كربلاء وأبنائها”.
بعد نحو أسبوع من اغتياله ومع اكتفاء الأجهزة الأمنية بتأكيد “جديتها في التحقيق بالحادثة وإعلان النتائج حال اكتمالها” -وهي العبارة التي دأبت على ترديدها بعد كل عملية والتي يفهم النشطاء من خلال إطلاقها بأن “القضية ستقيد ضد مجهول”- أشارت عائلتا “إيهاب الوزني وفاهم الطائي” بأصابع الاتهام في مقتل ابنيهما الى محافظ كربلاء وقائد الشرطة.
وعللت العائلتان في بيان مشترك ذلك الاتهام إلى انتهاء المدة التي منحاها للمسؤولين للكشف عن العصابة من دون تحقيق أي تجاوب يدل على جديتهما في التعامل مع القضية. “هذا التصرف ان دل على شيء انما يدل على أن الجهات الحكومية المتمثلة (بالمحافظ وقائد الشرطة)، إما أن يكونا مشتركين بهذه الجريمة الشنعاء أو انهما متستران على الجهة الفاعلة”.
أنا عراقي من قتلني؟
لنحو 8 أشهر تعرض عشرات آلاف المحتجين والمعتصمين في الميادين العامة في بغداد والمحافظات الجنوبية، لكل أشكال القمع من القتل بالرصاص الحي والرصاص المطاطي والعبوات القاتلة للغاز المسيل للدموع والأسلحة البيض، إلى جانب التعذيب والاغتيال، ولم يُحاسب أحد “في انتظار أن تكتمل التحقيقات”.
انتظار تحديد هوية القتلة من قبل سلسلة اللجان التي تم تشكيلها، مر عليه عام ونصف، على رغم أن الحكومة التي يرأسها مصطفى الكاظمي والتي تشكلت على وقع الاحتجاجات بعد إسقاط حكومة عادل عبد المهدي، أقرت في آب/ أغسطس 2020 بمقتل 560 متظاهراً وعنصر أمن، بينهم عشرات النشطاء الذين تعرضوا للاغتيال على يد مجهولين.
“التكتم على نتائج التحقيقات” هي التي دفعت نشطاء الى إطلاق حملة تحت عنوان “أنا عراقي من قتلني” لدفع الحكومة إلى إعلان نتائج تحقيقاتها وكشف الأسماء والجهات المتورطة فيها، والتوقف عن نشر البيانات التي تهدد القتلة بالملاحقة من دون فعل حقيقي.
الحملة تضمنت نشر عشرات “البوسترات” واللافتات التي تحمل صورة الوزني ورفاقه، وانتشرت في شوارع وساحات بغداد ومدن الجنوب فضلاً عن ديالى.
كما وجه نشطاء كربلاء رسالة احتجاجية إلى رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، عبر رقم هاتف مكتبه، طالبوه فيها بتنفيذ وعوده بالكشف عن قتلة النشطاء والإعلاميين، مشيرين الى توالي عمليات الاغتيال لقادة الرأي في المحافظة، كالروائي الدكتور علاء مشذوب والناشط فاهم الطائي وبالسيناريو ذاته المتمثل بدراجات القتل وكواتم الموت.
وذَكر نشطاء احتجاجات كربلاء، الكاظمي بمسؤولياته الدستورية “نذكّرك بمهامك التي نسيتها أو تناسيتها عمدا”، وبوعوده السابقة لعائلة الدكتور هشام الهاشمي “لن ننام قبل أن يخضع القتلة للقضاء. لن نسمح بالفوضى وسياسة المافيا أبداً”، وبأن للدولة جيوشاً جرارة من الأجهزة الأمنية لكنه في ملاحقة قتلة النشطاء “من دون حول ولا قوة”.
وهدد النشطاء في رسالتهم، بالتصعيد وسلوك “جميع سبل النّضال السّلمي” لكي لا يفلت القتلة من العقاب: “ولن ننتظر دورنا لتسفك أرواحنا مجاميع القتل المنظّم”.
ودعا الناشطون رئيس الحكومة الى سحب يد محافظ كربلاء ومساءلته بصفته رئيس اللجنة الأمنية العليا، وإقالة قائد شرطة كربلاء وإحالته للقضاء لتوالي مسلسل الإغتيالات دون رادع ولا كشف للمجرمين، مكررين “اكشفوا الجناة وأقيلوا المتسترين على القتلة”.
في يوم الثلاثاء 25 أيار، شارك الآلاف في التظاهرة التي ضمت أشخاصاً من مدن جنوبية مثل الناصرية وكربلاء، رفعوا صور نشطاء تعرضوا للاغتيال، لا سيما إيهاب الوزني. وخلال الاحتجاجات في ساحة التحرير التي اجتمع فيها حشد من المتظاهرين من المحافظات المنتفضة، قتل متظاهران “نتيجة إصابتهما بطلق ناري في الرقبة بعد نصف ساعة من وصولهما إلى المستشفى”.
ووثقت المفوضية العليا لحقوق الإنسان “مقتل متظاهرين اثنين وإصابة 20 آخرين، مبينة “إصابة 130 من القوات الأمنية”. كما سجلت المفوضية “اعتقال عدد كبير من المتظاهرين، تم إطلاق سراحهم باستثناء 11 متظاهراً معتقلاً.
يقول علي الفريجي صحافي وناشط من أهالي محافظة الديوانية شارك في تظاهرات التحرير، “ربما التصعيد سيأتي، فلا يمكن السكوت في حين الحكومة تتفرج على دمائنا تسيل. في قضية الهاشمي تحدثت الحكومة مراراً عن خيوط وعن تحديد الجناة، لكنهم في النهاية أصبحوا خارج العراق. كانت الحكومة تعرفهم، لكنها حتى اليوم لم تعلن أسماءهم والجهة التي ينتمون إليها”.
محاولات فاشلة
مصدر قريب من الحكومة ذكر أن الجهات الأمنية “تقوم بواجبها وتلاحق المتورطين لكنها تواجه تحديات كبيرة”، من دون الخوض في طبيعتها، مذكراً باعتقالات “فرقة الموت” في البصرة في شباط الماضي، ومحاولة اعتقال رؤوس مهمة مطلوبة للقضاء وتنتمي إلى فصائل مسلحة ضمن الحشد الشعبي في 12 أيار 2021. في اشارة إلى مسؤول في جماعة “عصائب أهل الحق”، يدعى صباح الوافي حاولت قوة من جهاز مكافحة الإرهاب اعتقاله.
لكن تلك العملية فشلت والمطلوب اختفى، وتحولت بعض تفاصيل المحاولة إلى فضيحةـ إذ هاجم مقاتلون بالأسلحة النارية، وفي تمرد واضح على القيادة العامة والأوامر العسكرية، مقر خلية الصقور الاستخبارية في مجمع القصور لمجرد اشتباههم بأن القوة التي حاولت تنفيذ الاعتقال وتتبع الخلية. واضطر الكاظمي عقب ذلك الى إقالة قائد العمليات اللواء الركن أكرم صدام.
ونشرت وسائل إعلام في حينها تصريحاً منسوباً لقائد العمليات، ذكر فيه إن عملية إطلاق النار التي جرت داخل القصور الرئاسية جاءت بعد تحرك قوة أمنية خاصة آتية من بغداد لاعتقال شخص مطلوب، لكنها لم تجده في المنزل فغادرت لكن معلومات وردت للفصيل الذي ينتمي إليه المطلوب، تفيد بأن القوة المداهمة هي من خلية الصقور بمجمع القصور فتم إطلاق النار على الخلية على رغم ان الصقور لم يكن لهم أي علم بعملية المداهمة.
وفي شباط الماضي أيضاً فشلت الأجهزة الامنية في دخول مقر الحشد الشعبي في مجمع القصور الرئاسية في البصرة لاعتقال أحد المطلوبين البارزين في “فرقة الموت” ليتم تهريبه لاحقاً.
قوائم الموت المسربة
بين تشرين الأول/ أكتوبر 2019 وكانون الثاني/ يناير 2020، شهدت أكثر من 10 محافظات عراقية إضافة إلى بغداد تظاهرات حاشدة، شاركت فيها شرائح مجتمعية مختلفة وتعرض خلالها مئات النشطاء للخطف والتعذيب والاعتقال.
وأحصت مفوضية حقوق الانسان العراقية، خلال أربعة أشهر من الاحتجاجات نحو 50 محاولة اغتيال، قبل أن يتراجع زخم التظاهرات بسبب انتشار فايروس “كورونا”، والحراك السياسي لتشكيل حكومة جديدة، لكن آلة القتل ظلت تعمل بزخم وتلاحق النشطاء لتتصاعد أرقام الضحايا في الأشهر اللاحقة.
بين أولئك كان جعفر الخصيب (اسم مستعار) وهو أحد النشطاء البارزين في البصرة، والذي اضطر الى ترك المدينة في تشرين الأول 2020 متجهاً إلى محافظة السليمانية في إقليم كردستان ومن ثم تركيا.
يقول إن محاولة اغتياله كانت في منتصف أيلول/ سبتمبر “بعد خروجي من المنزل لاحقني ثلاثة مسلحين يستقلون سيارة تويوتا بيضاء نوع (بيك آب) أطلقوا الرصاص باتجاهي لكنهم لم يصيبوني، وتمكنت من الفرار”.
على رغم خروجه من البلاد، اشترط الخصيب، الذي تم التواصل معه عبر تطبيق الواتساب، عدم إعطاء اي أوصاف تلمح لهويته، لأن ذلك قد يشكل تهديداً لحياة أسرته التي ما زالت تعيش في العراق. يقول “إنهم لا يتوانون عن فعل اي شيء، عائلات الكثير من النشطاء الفارين تتعرض للتهديد المستمر، احيانا برشقات من الرصاص او عبوات صوتية”.
بعد ساعات من الحادثة قدم الخصيب إفادته لضابط التحقيق الذي وجه اللوم له لمشاركته في تنظيم التظاهرات، “لم يتوقف عند ذلك الحد، بل قال إن ما تعانيه عائلتي انا السبب فيه، وأخبرني بشكل صريح أن الشرطة لن تستطيع حمايتي وأن من الافضل لي مغادرة البصرة سريعاً. وهمس في أذني (أنا أعرف المجموعة وإلى أي جهة تنتمي…غادر ليس لديك خيار آخر)”.
الأجهزة الأمنية التي عجزت عن حماية المحتجين، يبدو أنها فضلت ألا تكون شريكة في الجريمة، فسربت أسماء النشطاء والصحافيين المهددين بالتصفية. وتلقى صحافيون معلومات من أقاربهم في جهاز المخابرات، عن وجود قائمة تضم نحو 70 اسماً بين صحافي وناشط، وهم مهددون بالتصفية من قبل جماعات مقربة من ايران ترى أن الاحتجاجات تهدد سلطتها ووجودها.
تحدث نشطاء لكاتب التحقيق، بما فيهم الخصيب، عن تلقيهم في أيلول وتشرين الاول 2020 معلومات عن “نيات” لتصفيتهم بتهمة العمالة لأميركا وبريطانيا ودول الخليج.
تلك المعلومات تسربت بعد أيام من تعرض أربعة من أبرز ناشطي البصرة لمحاولات اغتيال، فقد قُتلت الناشطة في المجال المدني رهام يعقوب (19 آب) بعد أيام من اغتيال الناشط البارز في حراك البصرة الاحتجاجي تحسين الشحماني، صاحب خيمة “مدنيون” (14 آب)، بينما تمكن من النجاة كل من لوديا ريمون وعباس صبحي. وسبقت ذلك عمليات قتل أثيرت حولها الشبهات.
أرقام أخرى لعداد الموت
لم تقتصر عمليات الاغتيال عقب “حراك تشرين” على بغداد والبصرة، بل شملت 9 محافظات، بحسب وثيقة حكومية ضمت تواريخ الاغتيالات وأسماء ضحاياها، وأظهرت أن جل العمليات حصلت بين الساعة الرابعة إلى الحادية عشرة مساء، ونفذت بأسلحة رشاشة متنوعة بينها أسلحة كاتمة للصوت.
ضابط في جهاز الأمن الوطني تم التواصل معه مرات عدة قبل أن يوافق على اللقاء في مقهى وسط بغداد، ذكر وبشرط عدم ايراد اسمه، أن الوثيقة أحصت 291 محاولة اغتيال، أدت إلى مقتل 80 ناشطاً ومتظاهراً، وإصابة 122 آخرين، إلى جانب نجاة 89 ناشطاً ومتظاهراً من دون إصابة، وهؤلاء توزعوا بين بغداد، بابل، كربلاء، النجف، الديوانية، المثنى، الناصرية، ميسان والبصرة.
ومن الأسماء التي وردت في الوثيقة: رسام الكاريكاتير حسين عادل وزوجته سارة بتاريخ 3 تشرين الأول 2019 على أيدي مسلحين بعد اقتحام منزلهما وسط مدينة البصرة، وأمجد الدهامات وعبد القدوس قاسم وحيدر اللامي في ميسان، والناشط عدنان رستم في بغداد، وفارس حسن وفاهم الطائي في كربلاء، والخبير الأمني البارز هشام الهاشمي في بغداد.
وبحسب شهادة الضابط، فإن الاغتيالات حصلت بناءً على “عمل منظم قامت به جماعة مسلحة كانت تعمل في ظل أنظار وزارة الداخلية وبدعم من أطراف سياسية شيعية”، منبهاً إلى أنهم لا يستطيعون فعل شيء إزاءها “هناك ضباط في الأمن الوطني تم عزلهم بسبب موقفهم الرافض للاغتيالات، فيجب أن نلتزم الصمت”.
ويردف: “لا شيء مجهول، جهاز المخابرات العراقي يمتلك سجلاً ومعلومات كاملة عن الجهات التي نفّذت هذه الاغتيالات”.
العمارة والناصرية مقبرة الناشطين
في مساء 10 آذار/ مارس 2020، اغتيل الناشط البارز عبد القدوس قاسم مع صديقه المحامي كرار عادل في المنطقة الصناعية المهجورة في مدينة العمارة في محافظة ميسان جنوب العراق، حين كان عائداً الى منزله بصحبة صديقه الذي كان ضيفاً لديه، فيما نجا زميل ثالث لهما، بعد تعرضهم لسيل من النيران.
أوقفته في نحو التاسعة مساء عجلة يستقلها مسلحون ملثمون وطلبوا منه ومن صديقه الجلوس على الأرض ثم قاموا برميهما بالرصاص.
قبلها بأيام نشر كرار اقتباساً يقول فيه إن “هناك من يريد أن يقطع رأس كل من يوقظ الناس من سباتهم على امتداد التاريخ”.
كان يمكن أن يلقى الناشط صائب حميد، وهو صديق لعبد القدوس، المصير ذاته لولا هروبه مع عائلته من المدينة التي شهدت تظاهرات كبرى ضد الأحزاب الحاكمة، ولجوئه الى تركيا في نهاية عام 2019 عقب تعرضه لمحاولة اغتيال فاشلة. كما فر زميله الناشط مجيد الزبيدي بعد مهاجمة مسلحين سيارته. إلا أن عبد القدوس أصر على البقاء فدفع حياته ثمناً لذلك.
لا يستطيع “حميد” بدقة تحديد الجهة التي استهدفتهم لكنه يقول “إنها فرق الموت التي شكلتها الفصائل القابضة على المدينة، لا أحد يستطيع غيرهم فعل كل تلك الجرائم دون الخشية من الملاحقة”.
كما في العمارة تكررت عمليات الاغتيال في الناصرية بمحافظة ذي قار، يقول الناشط علي مهدي عجيل، الذي تعرض الى محاولتي اغتيال في 2020، إن جهة سياسية مسلحة متضررة من التظاهرات “سعت إلى الاستفادة من الخلاف بين المتظاهرين وسرايا السلام (الجناح العسكري للتيار الصدري) ونفذت حملة اغتيالات لزرع الفتنة ودفع المتظاهرين لاتهام الصدريين الذين هاجموا ساحة الاعتصام وأحرقوا الخيام فيها، في أعقاب دعوة الصدر إلى إنهاء الاعتصامات واستعادة المدينة لحياتها الطبيعية.
يوضح عجيل: “الجهات المتورطة بالاغتيالات تعتقد أن لدى هؤلاء النشطاء شعبية وتأثيراً، قد يشكلان خطراً عليها، وتفكر باستبعادهم بكل السبل، من القتل والاختطاف والتغييب إلى زرع العبوات أمام منازل عائلاتهم”.
الخيوط التي لا تفضي الى شيء
في 15 كانون الأول/ ديسمبر 2019 اغتيل الناشط البارز في محافظة الديوانية ثائر الطيب بواسطة عبوة لاصقة، وشيعه آلاف المتظاهرين وهم يرددون شعارات “ثائر وين تريد اليوم الساحة تريدك”.
يقول شقيقه مالك الطيب: “بعد الحادث أكد لنا ضابط التحقيق العميد ابراهيم الأسدي، توصلهم الى خيوط أولى، وبعد ثلاثة أيام أخبرونا أنهم يقومون بإجراءات بعد الوصول الى معلومات مهمة وتشخيصهم للمتورطين من خلال الكاميرات. هذا كان خلال رقود ثائر بالمستشفى قبل وفاته”.
بعدها ظهر قائد شرطة الديوانية العميد حيدر منخي في ساحة الساعة وسط المدينة، وقال ان القيادة وصلت الى الخيوط، وأنهم خلال أسبوع سوف يقومون بالقاء القبض على المجرمين واعدامهم في الساحة.
“بعد عام على حديثهم عن الخيوط لم يحصل شيء، طرقنا أبواب الجميع حتى وزير الداخلية عثمان الغانمي من دون نتيجة، حتى وصلنا إلى الكاظمي الذي وعدنا بالقبض على القتلة خلال ثلاثة أشهر، إلا أنه أخلف وعده”، يقول الطيب مبدياً يأسه من قيام أجهزة الحكومة بأي خطوة جدية “حتى الرقم الذي كنا نتواصل من خلاله معه وعبر أحد مستشاريه لم يعد يرد على اتصالاتنا”.
لم يعد الطيب يطالب الحكومة باعتقال القتلة، بل بالكشف عن هوياتهم، وحسب، ليتولوا هم محاسبتهم عشائرياً طالما عجزت الحكومة عن ذلك.
صحافيون في مرمى النار
ليس النشطاء وحدهم من يتعرضون للاغتيال، ففرق الموت تلاحق الصحافيين ممن يكتبون عن انتهاكات الجماعات المسلحة. خلال المرحلة الأولى لاحتجاجات تشرين، وتحديداً بين تشرين الأول وحتى كانون الأول 2019، تم اغتيال ثلاثة صحافيين، هم أمجد الدهامات في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر بالقرب من منزله في محافظة ميسان جنوبي العراق والمصور المستقل هشام فارس الأعظمي أول القتلى، إذ سقط جراء إصابته برصاص إحدى الجماعات غير النظامية في 4 تشرين الأول، بينما كان يغطّي تظاهرة في ساحة عبد القادر الكيلاني في بغداد، والمصور أحمد مهنا جراء إصابته في الظهر برصاصة مجهولة المصدر، بينما كان يغطي تظاهرات ساحة الخلاني في بغداد في 6 كانون الأول، وأثار مقتله موجة سخط على منصات التواصل الاجتماعي.
وفي العام التالي، ومع استمرار التظاهرات والاعتصامات لأشهر، اغتيل عدد من الصحافيين أبرزهم أحمد عبد الصمد مراسل قناة “دجلة” الفضائية في البصرة وزميله المصور صفاء غالي (10 كانون الثاني 2020)، والباحث الاستراتيجي هشام الهاشمي (6 تموز/ يوليو 2020).
نقلاً عن بيان “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة”، شهدت الأشهر من نهاية 2019 وحتى بداية 2021 انتهاكات جسيمة طالت الصحافيين والمؤسسات الإعلامية في عموم مناطق البلاد. وتم خلال تلك الفترة التي شهدت احتجاجات شعبية، توثيق أكثر من 600 حالة انتهاك، منها 5 اغتيالات و22 إصابة نتيجة تغطية التظاهرات، و85 تهديداً بالقتل والتصفية الجسدية، إضافة إلى إغلاق 30 وسيلة إعلام، معظمها جاء تنفيذاً لأوامر من هيئة الإعلام والاتصالات الحكومية. كما تم توثيق 27 هجوماً مسلحاً، طاولت صحافيين ومؤسسات إعلامية، نفذها مسلحون اعتبرتهم السلطات “مجهولين”، على رغم وجوههم المكشوفة وإعلانهم الصريح عن الجهات التي ينتمون إليها، ومن دون أي رادع أو محاسبة من الجهات المسؤولة.
مثل بقية الذين قتلوا في الاحتجاجات، لم يتم تحديد الجهة المسؤولة عن ذلك، وحتى في قضية الصحافي أحمد عبد الصمد التي أعلنت الحكومة عن إلقاء القبض على أفراد في الشبكة المتورطة بالاغتيال (عصابة الموت)، لم تكشف الجهة المسؤولة، ولم تفتح ملفات لتوجيه اتهامات لعشرات الأسماء التي حرضت على قتل الكثير من الصحافيين والنشطاء من خلال صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بتهمة العمالة والخيانة وتلقي أموال.
في جريمة اغتيال عبد الصمد وزميله، أكد مصدر بارز في أحد الأحزاب النافذة في البصرة لكاتب التحقيق، أن “تقريراً حكومياً حدد الجماعة التي نفذت الاغتيال وهي ترتبط بالحشد الشعبي والمعلومات التي في حوزة جهاز المخابرات سلمت إلى جهات محلية ودولية”.
منذ عام 2003، وبحسب إحصاء “نقابة الصحافيين العراقيين”، تم اغتيال أكثر من 370 صحافياً، وحتى الآن لم تتم محاسبة أي جهة متورطة أو القبض على قاتل أي صحافي، باستثناء اغتيال الصحافية أطوار بهجت، التي اعترف أحد المتورطين بالإرهاب بعد القبض عليهم باغتيالها.
وعود حكومية وتراجع الحراك
بعد نحو عام من انتشار “كورونا” الذي أثر بزخم التظاهرات، من دون أن ينهي الاعتصامات التي استمرت في بغداد والناصرية خصوصاً، وعقب تشكيل حكومة مصطفى الكاظمي في أيار 2020 وإعلانها عن برنامج ركز على استعادة الدولة وإنهاء السلاح المنفلت وإجراء انتخابات مبكرة ومحاسبة قتلة المتظاهرين، قررت معظم القوى الشبابية الناشطة في تظاهرات تشرين إنهاء الاعتصامات والدخول في معترك الصراع الانتخابي لتحقيق التغيير.
لكن الاغتيالات لم تتوقف، ونتائج “لجنة تقصي الحقائق” التي شكلت قبل نحو عام للكشف عن المتورطين بقتل المتظاهرين كما لجان التحقيق التي شكلت بعد كل عملية اغتيال، لم تعلن ولم يكشف عن تورط أي جهة فيها.
يقول عضو “لجنة حقوق الانسان النيابية” قصي عباس إن هناك متابعة للموضوع من قبل اللجنة التي يرأسها الكاظمي والجميع ينتظر نتائجها “التصريحات الحكومية تؤشر إلى تحقيق تقدم… نأمل بأن نصل إلى الحقائق ويتم تحديد الفاعلين الحقيقيين وتقديمهم إلى العدالة في أقرب وقت”.
وحمل عباس الحكومة المسؤولية في تأخر إعلان النتائج وكشف المسؤولين، وأكد أن لجنته النيابية “تجهل أسباب التأخير”، مرجحاً فرضية عدم رغبة الحكومة ومع اقتراب موعد الانتخابات في خلق مشكلات تعصف بالعملية السياسية، في “تحميل أي طرف سياسي المسؤولية، فذلك ربما سيولد إرباكاً في الوضع السياسي”.
تتطابق تصريحات أعضاء البرلمان من مختلف القوى، مع تصريحات النائب عباس، فيما يكرر مسؤولون في الحكومة الكلام ذاته منذ نحو عام “التحقيقات وصلت الى مراحلها الاخيرة وستعلن النتائج حال اكتمالها”، بينما يردد رئيس الحكومة بعد كل عملية اغتيال: “سنلاحق القتلة… لن يفلتوا من قبضة العدالة”.
بالتزامن مع التصريحات الرسمية التي تدور في حلقة مفرغة، يواصل نشطاء بارزون اتهام قوى بتحالف “الفتح” وخصوصاً “كتائب حزب الله” و”عصائب أهل الحق” بالتورط في الاغتيالات، فيما يتهرب قادة مختلف القوى السياسية من تحديد الجهات المتورطة وإن كان بعض أعضائها يتهم في أحاديث يمنع خروجها للإعلام “أطراف الفتح” بذلك.
وتتوافق اتهامات النشطاء مع نتائج التحقيقات مع أفراد عصابة الموت، في مصادر امنية، أوردت ان من مجموع أكثر من 11 مطلوبا ضمن العصابة التي يقودها أحمد عبد الكريم الركابي المعروف بـ(أحمد طويسة) تم اعتقال اربعة أشخاص فقط فيما تمكن الآخرون من الفرار، ولجأ بعضهم إلى مقر هيئة الحشد الشعبي في البصرة الذي لم تستطع القوات الأمنية دخوله بسبب المكانة التي يحظى بها المطلوبون ضمن “كتائب حزب الله”، ليتم تهريبهم لاحقاً إلى خارج البصرة.
لكن عدنان الزرفي رئيس “كتلة النصر النيابية”، يستبعد وجود جهة تتبنى اولئك المتهمين، مبيناً أن التحقيقات هي التي ستفرز ما إذا كان المتهمون يعملون بشكل منفرد أو أن وراءهم جهات محددة محلية أو إقليمية، مستدركاً “لا يمكن السماح أو التعاطي مع أي جهة تتبنى مثل تلك الخلايا الإجرامية”.
ويرى الزرفي أنه في النهاية “لا يمكن إخفاء الحقائق عن العصابة والجهات التي تقف وراءها كون القضية أصبحت قضية رأي عام، وبالتأكيد ستفرز الاعترافات ما إذا كانت هذه المجموعات مرتبطة بأخرى في بقية المحافظات التي شهدت اغتيالات”.
هل سيحاسب القتلة؟
لا يثق معظم النشطاء والصحفيين، بامكانية ان تقوم الحكومة الحالية بأجهزتها المختلفة التي تغلغلت فيها الجماعات المسلحة، بمحاسبة قتلة النشطاء والصحفيين، مشككين بأن تفضي التحقيقات الى اعتقالات مؤثرة في صفوف تلك الجماعات، او ان تنتهي الاعتقالات الى محاكمات وأحكام رادعة.
“الحكومة تعرف القتلة، لكنها لا تستطيع إعلانهم، وعاجزة عن إلقاء القبض عليهم، اعتقالات فرقة الموت في البصرة انتهت إلى لا شيء، وقضية سجاد العراقي تحولت إلى فضيحة كشفت ضعف الحكومة وأجهزتها الأمنية”.
ورغم حصول تطور في ملف الوزني، تمثل بقيام قوة امنية فجر الأربعاء 26 أيار من اعتقال القيادي في الحشد الشعبي قاسم مصلح آمر لواء ما يعرف بـ”الطفوف المنشق عن الوية حشد الشعبي” التابعة الى العتبات المرتبطة فقهياً بمرجعية السيد السيستاني، في عملية نفذت بمنطقة الدورة جنوب بغداد، الا ان نشطاء شككوا بامكانية محاسبة أي عنصر بارز في فصائل الحشد حتى لو تراكمت أدلة بشأنه.
يقول مسؤول في الأمن الوطني إن عملية اعتقال مصلح حصلت بناء على معلومات قدمها مسؤولون في حشد العتبات للحكومة عن تورطه بمخالفات وعن اتهامات ترتبط بإغتيال “ايهاب الوزني وفاهم الطائي”.
الشك بنتائج التحقيقات، لا تتعلق بهذه المجموعة، فهناك أربعة معتقلين آخرين في بغداد متهمون باغتيال الناشط البصري تحسين أسامة في مكتبه بشارع البهو بمنطقة الجنينة في آب 2020، بحسب حسين الشحماني وهو عم تحسين “نحن نعرف أسماء المتهمين وعشائرهم ودورهم السكنية في البصرة، لكننا رفضنا أن تأخذ القضية منحى آخر غير المسار القانوني والقضائي للاقتصاص من منفذي الجريمة”.
ويضيف :”نحن لا نعرف سبب اغتيال تحسين، والجهة التي تقف وراء القتلة ما زالت مجهولة بالنسبة إلينا لكن المعلومات الواردة تقول إن المنفذين كانت لديهم فتوى شرعية”.
ويتابع:”أحد المتورطين بالاغتيال غادر إلى خارج العراق ثم عاد، فيما ستة آخرون ما زالوا طلقاء يتحركون بحرية ولم يتم التحرك للقبض عليهم حتى الآن… هناك رؤوس كبيرة في البصرة متورطة بالقضية. في النهائية عائلات الضحايا يشعرون بأن دماء أبنائهم هدرت وأن الحكومة متورطة في اخفاء الجرائم”
وكانت والدة المغدور ايهاب الوزني قد اتهمت محافظ كربلاء نصيف جاسم الخطاب وقائد شرطة كربلاء أحمد الزويني وقائد العمليات كربلاء علي الهاشمي، بالوقوف وراء عملية تسهيل اغتيال ابنها، قائلة “هؤلاء الأشخاص الثلاثة، إذا لم يتمكنوا من الكشف عن قتلة ابني فهم متواطئون مع القتلة، لأنهم يعرفون من هو الذي قتل ايهاب. ابني المغدور قام بتسليم جميع الاسماء باليد الى قائد شرطة كربلاء عن الذين قاموا بتهديده وشاركوا في قتل المتظاهرين والنشطاء”.
بعدما تهدج صوتها بالبكاء حسرة على فقدان ابنها، تقول ان ايهاب طلب من قائد الشرطة أن يمنح له رخصة حمل السلاح لكن طلبه رفضه قائد الشرطة وقائد العمليات وأخبراه أنهما مسؤولان عن حمايته”.
لم تجر الحكومة ولا مكتب رئيس الوزراء أي اتصال مع والدة إيهاب، واتهمت حكومة الكاظمي “بالتستر على الجرائم التي تطاول النشطاء”.
وتقابل تلك الدموع، مشاهد نواح والدة الناشط المدني المغدور عبد القدوس، في فيديو لها انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وهي جالسة متربعة تنعي ابنها بحسرة وتصب دموعها وآهاتها على قبره في مقبرة وادي السلام بالنجف، وتردد عبارات الحزن والقهر.
ما زال الكثير من النشطاء والصحافيين هاربين خارج مناطقهم أو خارج البلد بسبب ما يتعرضون له من تهديدات بالقتل. لم تنجُ عائلاتهم أيضاً من الملاحقة إذ تعرضت منازل عائلاتهم للاستهداف والعبوات والقنابل اليدوية، لتوجيه رسالة تهديد تطالبهم بالمغادرة فوراً، ويأتي هذا أمام أنظار الحكومة التي تقف متفرجة على ما يحصل.
انجز هذا التحقيق بدعم من مؤسسة “نيريج” للصحافة الاستقصائية