ناشط: نحن في معركة خاسرة .. من يقول ان أيا منهم سيحاكم … هناك ضغوط وربما نستيقظ يوما ونسمع عن اطلاق سراحهم لعدم كفاية الأدلة
احمد حسن/ أيار 2021:
في 22 من شباط فبراير 2020 نحو الساعة الثامنة مساءً كان المتظاهر الشاب “محمد علي” (اسم مستعار) ينتظر بمفرده قرب ساحة كهرمانة وسط بغداد، مرور أي عجلة للنقل العام تقله الى بغداد الجديدة جنوب شرقي العاصمة ليكمل من هناك طريقه الى منزله في شارع فلسطين، لكن العجلة التي ركبها حملته الى عالم آخر وغيرت حياته الى الأبد.
كان البرد والظلام يحيطان بالمكان المحاذي لمكتب شركة “شوفرلية” للسيارات والذي يبعد عدة كيلومترات عن ساحة التحرير مركز الاحتجاجات الشعبية وميدان الاعتصامات المطالبة بتغيير الطبقة الحاكمة المتهمة بالفساد، حينما توقفت قربه عجلة “KIA” بيضاء اللون وفي داخلها أربعة ركاب لم يثر مظهرهم أي ريبة، فانسل محمد فيها سريعا وهو يتبادل السلام مع الراكبين قبل ان يسود الصمت.
لم تمر سوى لحظات حتى غيرت العجلة مسارها متجهة نحو شارع ابو نؤاس المطل على نهر دجلة في ذات اللحظة التي ظهرت فيها من تحت سترة احد الركاب مسدس كاتم للصوت صوب نحوه مع كلمات بلغة حاسمة “اصمت ان كنت تريد ان تعيش”. لتبدأ معها رحلة اختطاف انتهت بحياة مضطربة وبسلوك انعزالي وارتياب وخوف شديد.
محمد (23 عاما) كان عاطلا يبحث عن عمل منذ تخرجه من كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد في صيف 2019، ووسط موجة الاحتجاجات المطالبة بالاصلاح في تشرين الاول اكتوبر 2019 انخرط سريعا في دعم الحركة الاحتجاجية، وساهم في تأسيس خيام الاعتصام الطلابي في شارع السعدون المؤدي الى ساحة التحرير. وطوال أشهر عمل بحماس في جمع التبرعات لتوفير المستلزمات الاساسية من طعام وفرش نوم وادوية وأقنعة الوجه الواقية من قنابل الغاز القاتلة.
“آمال انهاء الفساد واصلاح النظام السياسي كانت تملأ روحه، قبل ان ينتهي كل شيء لحظة ركوبه تلك العجلة البيضاء التي حملت الظلام لعالمه وحولت احلامه الى كوابيس” يقول أحد أصدقائه.
أحصت مفوضية حقوق الانسان العراقية، في مطلع شباط 2020 خلال اربعة أشهر من الاحتجاجات فقط اختطاف 72 شخصا (22 أطلق سراحهم) الى جانب 49 محاولة اغتيال راح ضحيتها 22 ناشطا وصحفيا ومدونا. لكن الأرقام تصاعدت في الأشهر اللاحقة.
وفي مطلع حزيران 2021 كشف عضو مفوضية حقوق الانسان فاضل الغراوي، عن ما أسماه “أعداد المفقودين”، قائلا “تم معرفة مصير جميع المفقودين البالغ عددهم 76 مفقودا، باستثناء 18 منهم مازالت عمليات البحث والتحري جارية عنهم”.
أزقة الموت
مع موجات القمع المتلاحقة الى جانب حملات الاعتقال وعمليات الخطف التي طالت المحتجين، فضل النشطاء الفاعلون عدم ركوب اي عجلة في المناطق القريبة من ساحة التحرير التي عرفت “بأزقة الموت” حين تحولت الى مواقع لتمركز عناصر مسلحة ملثمة غير معروفة، اتخذت منها ميدانا للخطف والقتل بعيدا عن عيون رجال الأمن والمحتجين.
يقول “عباس” الأسمر العشريني صاحب دراجة “التك تك” الذي ظل طوال أشهر ينقل المتظاهرين من مركز الاحتجاجات بالتحرير الى ساحة كهرمانة التي تعد ملتقى عجلات النقل العام التي تتجه لأكثر من منطقة في بغداد: “كانت خطوة ضرورية للحماية من الاستهداف في محيط التحرير، لكن جماعات مسلحة مرتبطة باحزاب السلطة، التي اعتبرت التظاهرات خطرا عليها بدأت تختطف النشطاء من كهرمانة ايضا بعد عمليات تعقب دقيقة”.
في أزقة الموت المتمثلة بـ”البتاويين” وشوارع “السعدون” و”النضال” و”أبو نؤاس” جرت خلال شهري تشرين الثاني نوفمبر وكانون الأول ديسمبر 2019 ما لايقل عن 103 محاولة قتل واختطاف، بحسب شهادات موثقة بالتسجيلات الصوتية لعشرة أشخاص تم التواصل معهم وهم من قادة التنسيقيات فضلا عن عناصر أمن بجهاز حماية المنشآت المكلف بتفتيش الداخلين الى ساحة التحرير.
طوال نحو عام، اعتاد المحتجون، الذين اعتصموا بالآلاف في ساحة التحرير أو كانوا يتجمعون في محيطها، على مشاهد الموت وسقوط رفاقهم بالرصاص الحي وقنابل الغاز وبأسلحة القنص، حتى تجاوز عدد القتلى 560 والجرحى العشرين الف بحسب الأرقام الحكومية.
سير الخطف المتطابقة
في الليلة التي خطف فيها “محمد”، كان عباس قد نقله بدراجته مع اثنين من رفاقه (وائل وميسرة). في “كهرمانة” افترق الأصدقاء الثلاثة، وظل محمد وحيدا لدقائق يتصفح هاتفه المحمول منتظرا عجلة تقله. كانت المجاميع المسلحة تفضل “اصطياد الناشطين وهم منفردون لكي يسهل الخطف ولا يكون هناك شهود” يقول عباس.
بعد نحو عام على عملية الخطف، وفي غرفة صغيرة بمنزل العائلة، وافق محمد على استقبالنا برفقة والده وشقيقته وبعدة شروط مسبقة “لا كاميرات ولا تلفونات ولا اجهزة تسجيل”.
ظل الشاب لدقائق ينظر باتجاهنا وكأنه يحاول ان يقرأ نواينا فيما كان والده يتحدث عن الأيام العصيبة التي عاشوها، قبل ان يهم الشاب بالكلام: “في تلك الليلة اقتادوني الى بستان مهجور بمنطقة الدورة جنوبي بغداد وتحديدا قرب مصفى النفط. تصرفوا بكل هدوء، سحبوا هاتفي، ولم يعصبوا عيوني ليمروا من نقاط التفتيش الأمنية بصورة طبيعية. في احدى النقاط قالوا انهم منتسبون بجهاز الأمن الوطني”.
“في الطريق أخبروني أنهم من غرفة التظاهرات بذلك الجهاز ويريدون التحقق من مصادر الأموال التي جمعتها لدعم التظاهرات، لكنهم بعد اجتياز نقطة تفتيش اللواء الرئاسي في مخرج جسر “الطابقين” المطل على المنطقة الرئاسية، وقبل تجاوز مفترق طرق يؤدي الى “الزعفرانية” و”بغداد الجديدة” دخلوا في طريق ترابي ضم نقطة تفتيش وقف فيها عنصريان يرتديان ملابس عسكرية والى جانبهم سيارة (بيك آب) تويوتا رفع عليها علم الحشد الشعبي، وبسرعة فائقة رفع الحاجز وسمح للعجلة بالمرور. بعد دقائق بدت لي طويلة جدا وأنا غارق في التفكير بالمصير الذي ينتظرني، انتهينا الى بستان”.
يتابع محمد: “مع وصولنا الى هناك انهال علي الخاطفون بالضرب وأمسك أحدهم بقميصي وسحبني من السيارة بقوة فسقطت على الأرض. كان هناك أربعة اشخاص بلحى ينتظرونني وهم يحملون هراوات، بدا لي ان نهايتي أزفت، انهالوا علي بالضرب حتى سالت الدماء من كل أنحاء جسدي وفقدت الوعي لأصحو في ساعة متأخرة من الليل وأجد نفسي محتجزا في غرفة صغيرة بلا نوافذ تضم حماما (تواليت) قذرا”.
“الغرفة كانت معزولة تماما لم أكن أعرف متى يحل الصباح او الليل. تمر الساعات علي بطيئا تتخللها جلسات قصيرة من الأسئلة المتكررة والتعذيب الجسدي والاهانات من قبل أشخاص في أواخر الثلاثينات من أعمارهم يرتدون جميعا قمصانا صحراوية اللون وبنطلونات خضراء”.
تهديد بالموت وفدية وافراج مشروط
بعد مضي ثمانية أيام على انقطاع أخباره، والاجابة الروتينية لكل الأجهزة الأمنية التي تواصلت العائلة معها “ابنكم ليس معتقلا لدينا” تلقى والد محمد الذي يعمل موظفا حكومياً، رسالة من الخاطفين عبر تطبيق التلغرام تطالبه بالتعهد خطياً بالتوقيع على ورقة بيضاء بمنع ابنه من المشاركة في الاعتصامات الطلابية وجمع التبرعات مقابل الإفراج عنه، مع عدم الإفصاح لأي جهة بأية معلومات عن ما تعرض له.
بعدها بأيام خرج محمد، عقب آلية افراج معقدة تضمنت تدخل “السيد ……..” وهو رجل دين شيعي يسكن منطقة الزعفرانية المحاذية لبغداد الجديدة جنوب شرقي العاصمة، يعمل كوسيط بين عوائل المختطفين والجماعات الخاطفة ويتقاضى لقاء ذلك آلاف الدولارات في كل عملية.
اطلعنا على الرسائل المتبادلة بين والد محمد والسيد الوسيط، إضافة الى المكالمات الصوتية وصور المختطف وعليه آثار تعذيب بكل اجزاء جسمه حتى وجهه.”حصل السيد على خمسة آلاف دولار في دفعتين. وأحمد الله ان ابني نجا وعاد، فآخرون لم يعودوا أبدا”، يقول بينما التمعت في عيناه الدموع وهو ينظر الى محمد وهو يغادر الغرفة.
يستدرك الوالد بصوت خفيض: “لكن ابني لم يعد كما كنا نعرفه، أصبح انسانا آخر. هو يعاني من اضطرابات نفسية لم يستطع الأطباء أن يجدوا لها علاجا. أصبح انطوائيا ويذعر من اي صوت. طوال أسابيع بعد عودته كان يرفض مقابلة أصدقائه وحتى إخوته”.
توقفت الاحتجاجات ولم يتوقف الخطف
في ذروة التظاهرات بين تشرين الاول 2019 وكانون الثاني 2020 تعرض مئات النشطاء الى الاعتقال والاختطاف والتعذيب، واستمرت تلك المحاولات بعد تراجع التظاهرات وتوقفها في بعض المناطق مع تشكيل الحكومة الجديدة، من بينهم جعفر الخصيب (اسم مستعار) وهو أحد ناشطي البصرة والذي فضل تغيير اسمه تجنبا للملاحقة.
فرّ الخصيب في تشرين الأول أكتوبر 2020 الى محافظة السليمانية باقليم كردستان واتجه منها الى تركيا بعد تعرضه لمحاولة خطف في وسط البصرة كاد يفقد فيها حياته.
رغم خروجه من البلاد، اشترط الخصيب، الذي تم التواصل معه عبر تطبيق الواتساب، عدم اعطاء اي أوصاف تلمح لهويته، لأن ذلك قد يشكل تهديدا لحياة أسرته التي ما زالت تعيش في العراق “انهم لا يتوانون عن فعل اي شيء، عوائل العديد من النشطاء الفارين تتعرض للتهديد المستمر، احيانا برشقات من الرصاص تطال منازلهم او عبوات صوتية”.
يسرد الناشط الذي لم يبلغ بعد الثلاثين من عمره تفاصيل محاولة الخطف: “كان ذلك في منتصف ايلول سبتمبر 2020 في شارع الجزائر، بعد دقائق من خروجي من المنزل وأثناء مروري قرب سيارة تويوتا (بيك آب) بيضاء اللون متوقفة فوجئت بصدور صوت عال من محركها، وفي لحظة خاطفة استدرت فشاهدت شخصا يصوب مسدسه نحوي، كنت حينها أقف أمام أحد المحال. وفي حالة فزع ومن دون تفكير دخلت الى المكان وأنا اصرخ وأتدافع مع العاملين فيه، بينما ارتفع صوت اطلاق نار”.
“كنت محظوظا لأن المحل كان فيه باب خلفي يطل على شارع عام خرجت منه وتوجهت الى مرآب مجاور للسيارات وانا استنجد بالناس، احدهم وجهني بدخول الحمامات، بقيت هناك لنحو ربع ساعة وانا شبه مشلول لا اعرف ما علي فعله والموت يترصدني”.
“أبلغوني بعدها بفرار المسلحين، عقب اصابة أحد العمال برصاصة في ساقه اليسرى” يقول الناشط “ذلك الحادث أنقذ حياتي”.
كانت المجموعة التي طاردت الخصيب مؤلفة من ثلاثة اشخاص، ويبدو انهم كانوا يخططون لخطفه وليس قتله فقد كان في مرمى نيرانهم.
بعد ساعات من الحادثة تفقدت الشرطة المحلية المكان ومنزل عائلة الخصيب وأجرت تحقيقاً شكليا بعد قيام صاحب المحل بتقديم إخبار عن الحادث، وقدم الناشط إفادته لضابط التحقيق الذي وجه اللوم له لمشاركته في تنظيم التظاهرات وحمله مسؤولية ما حصل.
“لم يتوقف عند ذلك الحد، بل قال ان ما تعانيه عائلتي أنا السبب فيه، وأخبرني بشكل صريح أن الشرطة لن تستطيع حمايته وأن من الافضل له مغادرة البصرة سريعا. وهمس في أذني انا اعرف المجموعة والى أي جهة تنتمي واعرف بينهم “حجي م……. غادر ليس لديك خيار آخر”.
الاسم الذي ذكره ضابط الشرطة هو لأحد الشخصيات المعروفة في المحافظة بملاحقة الناشطين والمتظاهرين.
تصفيات بتهمة العمالة
طوال أشهر من توثيق حوادث الاختطاف تحدث ناشطون لكاتب التحقيق، عن تلقي العديد منهم بين ايلول سبتمبر وتشرين الاول أكتوبر 2020 معلومات عن “نوايا” جماعة محددة القيام بعمليات تصفية لناشطين في التظاهرات وان لديهم فتاوى بشرعية القتل بتهمة العمالة لأمريكا وبريطانيا ودول الخليج.
في ذات الفترة تلقى صحفيون معلومات من اطراف امنية مقربة من مكتب رئيس الوزراء، تفيد بوجود قائمة تضم نحو 70 اسما، بين صحفي وناشط، مهددون بالتصفية من قبل جماعات مسلحة مقربة من احزاب السلطة، بتهمة “تواصلهم مع دول معادية لفصائل المقاومة”.
الأجهزة الأمنية التي عجزت عن حماية المحتجين من فصائل مسلحة “تعتقد ان الاحتجاجات مؤامرة لتهديد وجودها”، يبدو انها فضلت ان لا تكون شريكة في الجريمة، فسربت أسماء النشطاء والصحفيين المهددين بالتصفية (الخطف او القتل).
تلك المعلومات تسربت بعد ايام من تعرض أربعة من أبرز ناشطي البصرة لمحاولات اغتيال، فقد قُتلت الناشطة في المجال المدني رهام يعقوب (19 آب اغسطس) بعد أيام من اغتيال الناشط البارز في حراك البصرة الاحتجاجي “تحسين الشحماني” صاحب خيمة “مدنيون” (14 آب)، بينما تمكن من النجاة كل من لوديا ريمون وعباس صبحي. وسبق ذلك عمليات قتل أثيرت حولها الشبهات.
291 محاولة اغتيال
لم تقتصر عمليات الخطف والاغتيال التي جرت عقب “حراك تشرين” 2019 على بغداد والبصرة، بل شملت تسع محافظات، بحسب وثيقة ضمت أسماء وتواريخ عمليات الاغتيال، وأظهرت ان جل العمليات حصلت بين الساعة الرابعة الى الحادية عشرة مساء، ونفذت باسلحة رشاشة متنوعة بينها أسلحة كاتمة للصوت.
ضابط في جهاز الأمن الوطني تم التواصل معه عدة مرات قبل ان يوافق على اللقاء في مقهى وسط بغداد، قال وبشرط عدم ايراد اسمه، ان الاغتيالات حصلت بناءً على “عمل منظم قامت به جماعة مسلحة كانت تعمل في ظل أنظار وزارة الداخلية وبدعم من قبل أطراف سياسية شيعية”.
الوثيقة أحصت 291 محاولة تصفية مباشرة او بعد الخطف، أدت الى مقتل 80 ناشطا ومتظاهرا، واصابة 122 آخرين، الى جانب نجاة 89 ناشطا ومتظاهرا دون إصابة، وهؤلاء توزعوا بين بغداد، بابل، كربلاء، النجف، الديوانية، المثنى، الناصرية، ميسان والبصرة.
الغرفة الخاصة
ويكشف الضابط عن تشكيل “غرفة” لقمع الاحتجاجات برئاسة وزير الداخلية ياسين الياسري، “حين اشتدت التظاهرات شكلوا الغرفة لمواجهتها، كانوا يعتبرونها عملية منظمة وممولة لاستهداف السلطة والاحزاب المتنفذة التي لديها جماعات مسلحة”.
يستطرد “كانت اجتماعاتها تضم ممثلين عن وزارة الدفاع وجهاز المخابرات وضباط في الأمن الوطني وهيئة الحشد الشعبي وعناصر نافذة في الأحزاب”، ويحتفظ كاتب التحقيق بالاسماء التي كانت تحضر الاجتماعات .
الضابط في الأمن الوطني، حدد الجهة المعنية بقمع المتظاهرين وملاحقة الناشطين:”عرفنا بوجود غرفة عمليات خاصة سميت بغرفة “التعامل مع التظاهرات” يبدو ان عناصر منها دست ضمن قوات مكافحة الشغب وهي من كانت تقوم بعمليات رمي الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع بهدف القتل وترهيب المتظاهرين”.
هذه المعلومات تتقاطع مع تصريحات ليحيى رسول المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة، عن تورط عناصر في وزارة الداخلية “قوات حفظ النظام ومكافحة الشغب” باستخدام الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع بغية قتل المتظاهرين، متهماً حكومة عادل عبد المهدي بهذه الجرائم.
من قلب للاحتجاجات الى ساحة للخطف
ظلت الناصرية طوال أكثر من عام مركز الاحتجاجات الأكبر في جنوب العراق، وهناك توالت محاولات الخطف والاغتيال لاجبار المشاركين على الانسحاب منها.
يقول الناشط علي مهدي عجيل، الذي تعرض الى محاولتي اغتيال، الأولى في 28 تشرين الثاني نوفمبر 2020 “كنت متجها بسيارتي الى مركز شرطة البلدة بالناصرية بهدف اطلاق سراح المتظاهرين الذين تم اعتقالهم عقب الصدامات التي جرت نتيجة حرق خيام الاعتصام في ساحة الحبوبي. لمحت في شارع النبي ابراهيم وجود دراجة نارية كبيرة الحجم تلاحقني وعلى متنها ثلاثة ملثمين، توجهت بسرعة الى تقاطع البهو وهناك تيقنت ان الدراجة تطاردني، لم تمضي الا لحظات حتى بدأوا باطلاق النار واصيبت سيارتي برصاصتين”.
قبلها بأيام اطلق ملثمون يستقلون دراجة نارية وفي شارع النبي إبراهيم أيضا ثلاث رصاصات، أصابت واحدة منها زجاج سيارته.
عجيل الذي نجا من المحاولتين، استبعد تورط “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري في المحاولات. ورأى إن جهة سياسية مسلحة متضررة من التظاهرات “سعت الى الاستفادة من الخلاف بين المتظاهرين والسرايا السلام ونفذت حملة اغتيالات لزرع الفتنة ودفع المتظاهرين لاتهام الصدريين الذين هاجموا ساحة الاعتصام وأحرقوا الخيام فيها عقب دعوة الصدر لانهاء الاعتصامات.
سجاد المغيب والمتهمون
بعد نحو عام من انتشار فيروس كورونا الذي أثر على زخم التظاهرات، لكنه لم ينه الاعتصامات التي استمرت في بغداد والناصرية بشكل خاص، وبعد أشهر من تشكيل حكومة جديدة، عقب استقالة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي والذي اتهم بالتواطء مع قتلة المتظاهرين، واعلانها عن برنامج ركز على استعادة الدولة وانهاء السلاح المنفلت واجراء انتخابات مبكرة ومحاسبة قتلة المتظاهرين، قررت معظم القوى الشبابية الناشطة في تظاهرات تشرين انهاء الاعتصامات والدخول في معترك الصراع الانتخابي لتحقيق التغيير.
لكن عمليات الاستهداف لم تتوقف، فاختطف في 19 أيلول سبتمبر 2020 بمدينة الناصرية الناشط الشاب سجاد العراقي، وما يزال مصيره مجهولا.
يروي حجي باسم فليح، الذي كان برفقة العراقي أثناء محاولة الاختطاف وأصبح شاهدا على العملية: “كنا خمسة أشخاص في السيارة، متوجهين لزيارة صديق لنا مصاب في الاحتجاجات، اكتشفنا ان سيارتين تطاردنا، فتوقفنا. ترجل أربعة مسلحين يرتدون كمامات طلبوا منا التزام الصمت وعدم التحرك وطلبوا من سجاد النزول والذهاب معهم”.
أثناء شجار سريع رافق محاولة الخطف، تعرف الشاهد الى أحد الخاطفين من خلال صوته ويدعى ادريس الإبراهيمي.
بحسب حجي باسم، فان ادريس الابرهيمي شخصية مهمة ينتمي الى منظمة بدر بزعامة هادي العامري وهو من اهالي محافظة ذي قار ويعمل موظفا في مؤسسة السجناء والشهداء وكان سابقا مقاتلا بارزا في اللواء العاشر في الحشد الشعبي
حاول الشاهد الاستغاثة بادريس الابراهيمي، مناديا اياه بكنيته :”حجي ابو زهراء ارجوك اتركوا سجاد”.
لم ينفع ذلك، وانفعل الابراهيمي موجها كلامه للشاهد بالتزام الصمت وهو يشير بسبابته كتحذير، ثم كسر الزجاج الجانبي للسيارة بمسدسه، فيما قام مسلح آخر كان يحمل مسدسا كاتما للصوت بجر سجاد بالقوة من المقعد الخلفي ووضعه في سيارة الخاطفين قبل ان يعود ويطلق النار على حجي باسم بسبب تعرفه على الابراهيمي، لكنه نجا بأعجوبة بعد نقله الى مستشفى الناصرية لمعالجته من اصابة بليغة.
تلك الحادثة اثارت موجة غضب كبيرة في صفوف الناشطين، وأجبرت الحكومة على الدفع بـ”قوة” من جهاز مكافحة الارهاب للبحث عن سجاد واعدة بالافراج عنه واعتقال الخاطفين، بعد محاولات فاشلة للتواصل مع جهات يعتقد بانتماء الخاطفين لها، لكن كل المحاولات فشلت وبقي سجاد مغيباً وتكتمت الأجهزة الأمنية على هويات الخاطفين وتفاصيل العملية.
بعد أكثر من ثمانية أشهر من الواقعة، ذَكَرَ نشطاء كانوا برفقة سجاد لحظة الاختطاف، الأجهة الأمنية بوعودهم التي لم تنفذ، مشيرين الى حازم الوائلي قائد شرطة ذي قار السابق “قال لنا يومها بأنه يجري مفاوضات مع الخاطفين”. كما أكدوا في حديث عبر تطبيق (Clubhouse) خلال حملة للضغط على الحكومة لكشف المتورطين ان “أوامر قبض صدرت بحق شخصين في القضية، لكن دون تنفيذها”.
تقول والدة سجاد انها تعرف الجهة المتورطة بخطف ابنها وهي تتبع حزب متنفذ، وتعرف الشخص الذي قام بالخطف، وقدمت الأدلة والأسماء إلى الجهات الأمنية والقضاء، لكنها لم تلمس أي تحرك حقيقي.
“لايوجد تحقيق، القضية أهملت وتم ركنها، فلا جديد والأجهزة الأمنية لم تبلغنا بشيء بل نحن من نزودها بالمعلومات.. المختطفون معروفون بالأسماء، لكن لم تجر عمليات مداهمة وتفتيش بحثا عنهم.. هناك اربعة شهود لديهم دليل قاطع بشأن تورط شخص بالوشاية على سجاد هو اختفى بعد الحادثة ويتنقل الآن بين منطقة واخرى”.
بعد تسعة أشهر من الواقعة وعشرات الوعود التي قطعت لوالدة سجاد من كبار المسؤولين، لا تخفي الأم يأسها من معرفة مصير ابنها “لا اعرف ان كان ميتا أو حيا، لا شيء اصعب من ذلك”.
انتظار بلا نهاية
منذ نحو عام ينتظر النشطاء نتائج لجنة تقصي الحقائق للكشف عن المتورطين بقتل وخطف المتظاهرين، ولجان التحقيق التي شكلت بعد كل عملية، والتي لم تخرج بتحديد الأشخاص ولا الاطراف المتورطة. انه انتظار بلا نهاية لتناسي القضايا كما يرى النشطاء.
مع صمت الحكومة برزت أصوات في صفوف المحتجين توجه اصابع الاتهام مباشرة الى احزاب السلطة وفصائل مسلحة لها ارتباط بالحشد الشعبي، مشيرة الى ان وسائل اعلام الفصائل وتحديدا كتائب حزب الله وعصائب اهل الحق نقلت تصريحات وتعليقات وكتابات هاجمت الاحتجاجات وشككت بدوافع النشطاء واتهمتهم “بالعمالة والخيانة وتلقي الاموال من الخارج”.
لكن النائب فاضل الفتلاوي عن حركة “عصائب أهل الحق” يرفض تلك الاتهامات، ويعتبرها جزءا من حملة تستهدف قوى المقاومة، ويطالب حكومة الكاظمي “بتكثيف الجهد الاستخباري، لتكون هناك تحقيقات قضائية بعيدة عن الضغوطات من اجل الكشف عن القتلة وتقديمهم الى العدالة، ولكي نبعد الاتهامات غير الحقيقية الموجهة الى جهات بعينها”.
ويهاجم الفتلاوي الاتهامات غير المستندة لحقائق، ويقول ان جهات خارجية عديدة “لديها مصالح في اثارة الفوضى داخل المجتمع العراقي”، مشددا على أن القضاء يجب ان يأخذ مجراه وعلى الجهات المعنية بالتحقيقات كشف ما توصلت اليه.
ويؤكد النائب أن الفصائل المرتبطة بالحشد الشعبي بما فيه عصائب اهل الحق هي قوة أمنية تابعة للقائد العام للقوات المسلحة واتهامها يأتي لإثارة الخلافات وخلق الفتنة.
ملاحقة عوائل النشطاء
بحسب نشطاء، لا تكتفي الجماعات المسلحة باستهداف الناشطين بل تلاحق عوائلهم ايضا برسائل التهديد لاجبارهم على ايقاف متابعة ملفاتهم.
تعرضت العديد من بيوت الناشطين لهجمات بأسلحة نارية وبعبوات صوتية كبيت الناشط حسين الغرابي في ذي قار، فيما تلقى آخرون رسائل تهديد عبر تلفوناتهم او عبر التواصل مع اقاربهم.
يؤكد الناشط علي مهدي عجيل ان المجموعات المسلحة لا تتوانى عن فعل اي شيء لوقف الاحتجاجات “أنا علقوا في باب بيتي دمية طفل مشنوقة وملطخة بالدماء. كانت رسالة واضحة انهم يعرفونني ويعرفون بيتي والأولاد وبإمكانهم أن يقلتوا أي شخص اذا لم أنسحب”.
يقول مالك الطيب الذي اغتيل شقيقه الناشط البارز في الديوانية ثائر الطيب في منتصف كانون الاول ديسمبر 2019 بواسطة عبوة لاصقة، والذي تواصل مع العديد من المسؤولين بما فيه رئيس الوزراء ووزير الداخلية لكشف قتلة شقيقه، انه تلقى رسائل تهديد بالتوقف عن متابعة ملف شقيقه.
“قبل فترة اثناء عودتي من العمل بسيارتي، قرب مستشفى الحسين، لحقت بي دراجة نارية يقودها شخص ملثم طلب مني التوقف للتحدث الي. مررت بلحظات عصيبة وأنا اراقبه قبل ان يطالبني بترك الدعوى بشأن الكشف عن قتلة اخي لأن في ذلك خطرا كبيرا على حياتي. اطلق كلماته وانطلق سريعا، حاولت تعقبه لكنه دخل الى الأزقة الضيقة واختفى”.
يقول وهو يجهش بالبكاء: “لا يمكننا ان ننسى مقتله، لو كان باستطاعتنا لتقبلنا رحيله… حياتنا كلها انقلبت، والدتي تدهورت صحتها وانا أشعر ان ظهري انكسر..وبعد كل ذلك يطالبونك بالصمت ونسيان ما جرى”.
تتشابه محاولات الخطف في تفاصيلها، كما في نتائج التحقيقات فيها والتي تنتهي الى المجهول. ففي خمس قصص اختطاف وثقها معد التحقيق، كان المشهد العام: سيارة تحمل مسلحين تلتقط الناشط من الشارع وتشهر في وجهه سلاحا ناريا ليلتزم الصمت، وتؤكد انه سيخضع لاستجواب سريع، وتمر عبر عدة نقاط تفتيش دون ان تتوقف لتنتهي في موقع احتجاز منزوي يتم حراسته من قبل اشخاص يستخدمون اللغة والمصطلحات ذاتها التي عادة ما تستخدمها الجماعات المسلحة ويرتدون ذات الملابس.
عدادات الموتى
في 30 من تموز يوليو 2020 أعلن هشام داوود مستشار رئيس الوزراء أن عدد قتلى الاحتجاجات بلغ 560 شخصا بين متظاهر ورجل امن، وانها ستتعامل مع الجميع بصفتهم “شهداء” وستحصل كل أسرة على 10 ملايين ديناركتعويضات.
قبلها بستة أشهر وتحديدا في الثالث من شباط فبراير 2020 اعلنت مفوضية حقوق الانسان عن مقتل 556 (منهم ١٧ منتسبا امنيا) واصابة ٢٣٥٤٥ (٣٥١٩ منتسبا امنيا) خلال الفترة الممتدة بين الاول من تشرين الاول ٢٠١٩ و ٣٠ كانون الثاني ٢٠٢٠. كما كشفت عن 121 عملية اختطاف ومحاولة اغتيال.
فيما وثق مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بين تشرين الأول أكتوبر 2019 ونيسان أبريل 2020، واستنادا إلى أكثر من 900 مقابلة مع أقارب ضحايا وشهود عيان وصحفيين وناشطين مدنيين وسياسيين، مقتل 487 شخصا على الأقل، وإصابة 7715 شخصا بجراح خلال المظاهرات، غالبيتهم من الشباب، فضلا عن اعتقال نحو 3 آلاف متظاهر، مما أضاف مخاوف بشأن اعتقالات تعسفية وسوء معاملة، بحسب بيان ليونامي.
بعد أشهر من البحث والتدقيق وبالتواصل مع جهات متعددة بينها رسمية واخرى من تنسيقيات التظاهرات، تم إحصاء 561 قتيلا واصابة 24 الف و688، بينهم 20 ألفا و597 متظاهرا و4091 عنصرا أمنيا، الى جانب 62 محاولة اغتيال، كان آخرها اغتيال ايهاب الوزني في وسط كربلاء.
عدد القتلى والجرحى من المتظاهرين والقوات الامنية والمختطفين وعمليات الاغتيال في كل محافظة:
بغداد: قتل 283 متظاهرا مدنيا و6 عناصر أمنيين، واصابة 14 الفا و256 متظاهرا فضلا عن اعتقال 903 متظاهرا تم الإفراج عن 877 منهم، فيما لا يزال الاخرين قيد الاعتقال، وجرت 12 محاولة اغتيال، قتل فيها 9 اشخاص، أبرزهم الباحث والخبير الاستراتيجي هشام الهاشمي.
ذي قار: قتل 112متظاهرا وإصيب 2344 آخرين، فيما اعتقل 471 متظاهرا. وشهدت 18 عملية اغتيال، قتل بسببها 5 وأصيب 3، فيما نجا 10 آخرين دون إصابة.
البصرة: قتل 40 متظاهرا وأصيب 429، واعتقل 384 اخرون، حيث أطلق سراح 381 منهم، فيما شهدت 11 عملية اغتيال، قتل فيها 7 ناشطين وأصيب 4، أبرزهم تحسين اسامة ورهام يعقوب.
النجف، قتل 39 متظاهرا وأصيب 828 آخرون، فيما تم اعتقال 135 وأفرج عنهم جميعا، ولم تسجل المحافظة أي عملية اغتيال.
ميسان قتل فيها 25 متظاهرا وأصيب 226 آخرين واعتقل 21 وأطلق سراحهم فيما سجلت 12 عملية اغتيال قتل فيها 5 ناشطين وأصيب 4 ونجا 3 دون إصابة.
الديوانية قتل 20 متظاهرا واصابة 197 آخرين، واعتقال 143 وأفرج عنهم جميعا، وشهدت عملية اغتيال واحدة التي راح ضحيتها الناشط ثائر الطيب، بعد ان انفجرت عبوة ناسفة كانت موضوعة في عجلة كان يقودها.
بابل، قتل فيها 11 متظاهرا وأصيب 239 آخرين، واعتقل 166 وأطلق سراحهم، فيما شهدت عملية اغتيال واحدة.
وفي كربلاء قتل 9 متظاهرين وأصيب 1911 آخرين، واعتقل 434، أطلق اغلبهم باستثناء معتقل واحد خضع للمحاكمة، فيما شهدت 7 عمليات اغتيال قتل فيها ثلاثة وأصيب 4 آخرين.
في حين، سقط في واسط، 6 قتلى و148 جريحا، واعتقل 151 وأطلق سراحهم وعملية اغتيال واحدة.
وفي المثنى، سقط قتيلان فقط، وأصيب 17 آخرين فيما اعتقل 19 متظاهرا واطلق سراحهم، ولم تسجل أي عملية اغتيال.
وفي ديالى قتل متظاهرين اثنين وأصيب أثنين آخرين، فيما لم تسجل أي حالة اعتقال او اغتيال.
هل سيحاسب القتلة؟
حتى بعد اعتقال عدد من افراد “عصابة الموت” في البصرة المتهمة بتنفيذ سلسلة عمليات قتل بينها اغتيال الصحفي احمد عد الصمد وزميله المصور صفاء غالي في يناير كانون الثاني 2020، يشكك نشطاء بارزون بامكانية محاسبة المتورطين، ويرون ان الافلات من العقاب سيظل سائدا.
لكن عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية والنائب عن البصرة بدر الزيادي، يبدي شيئا من الأمل، ويصف اعتقالات بعض افراد عصابة الموت بأنها “رسالة اطمئنان لأبناء البصرة بأن الأجهزة الأمنية قادرة على إلقاء القبض على المجرمين ولو بعد حين”.
ولم يخف طلب بعض القيادات الأمنية نقل المتهمين من البصرة إلى بغداد “لكي لا تكون هناك ضغوط على الأجهزة الأمنية ولا يتم تغيير الإفادات في ظل اي تأثير داخلي أو تدخل خارجي”.
الزيادي الذي أعرب عن أمله بأن تظهر التحقيقات “نتائج أكثر واكبر حول الدوافع وراء تلك الاغتيالات، وطبيعة انتماءات أفرادها” قال ان اللجنة الأمنية النيابية ستفتح الملف وتحصل على معلومات دقيقة من الأجهزة الأمنية “لكي لا تثبت الاغتيالات ضد مجهول”.
وطلب يحيى رسول باعطاء مجال للجهد الاستخباراتي لاكمال التحقيقات للكشف عن الافراد المسؤولين بارتكاب عمليات استهداف المتظاهرين.
كما وفند رئيس مجلس القضاء الاعلى ومكتب الكاظمي، ادعاء حكومة عادل عبد المهدي بوجود “طرف ثالث” متورط، حيث قال رئيس مجلس القضاء “هذه معلومات وهمية ولا تمت للحقيقة بصلة، هناك طرفين هما القوات الامنية والمتظاهرين”.
وكان وزير الدفاع السابق نجاح الشمري، اعلن في نوفمبر 2019، عن وجود طرف ثالث متهم بقتل المتظاهرين.
نحن في معركة خاسرة
في ظل حكومة عاجزة تغلغلت الجماعات السياسية ذات الأجنحة المسلحة في أجهزتها، يكاد يجمع نشطاء حراك تشرين باستحالة محاسبة المتورطين في عمليات الخطف والاغتيال، ويشككون بأن تفضي النتائج الى اعتقالات مؤثرة ومحاكمات وأحكام رادعة، مشيرين الى فشل الاجهزة في اعتقال متهمين رغم وجودهم في العراق، وان آخرين سيخرجون وسيبرر ذلك بغياب الأدلة.
يقول صحفي معروف في البصرة، رفض الرد على اسئلتنا مرارا، ثم تحدث بشرط عدم كشف أي شيء يدل على هويته: “نحن لا نتحدث لأننا نخشى الموت، لا نثق بالأجهزة الأمنية فهي مخترقة وعاجزة والجماعات المسلحة لها القول الفصل.. اعتقلوا هنا بضعة أشخاص هم مجرد أدوات في حين ان كل اجهزة البصرة لم تستطع القبض على رئيس المجموعة الذي كان متواجدا في البصرة. ثم من يقول ان هؤلاء سيحاكمون فعلا هناك ضغوط، وربما نستيقظ يوما ونسمع عن اطلاق سراحهم لعدم كفاية الادلة او هروبهم!.. نحن في معركة خاسرة”.
ويضيف:”وصل بنا الحال انه اذا تم تهديدنا من قبل اشخاص او حصلنا على معلومات مهمة لا نستطيع تبليغ الأجهزة الأمنية بها لأن بلاغاتنا ستسرب الى الجماعات التي لن تتردد في تصفيتنا ولا رادع يمنعها. ايهاب الوزني سلم الأجهزة الأمنية أسماء من كانوا يهددونه. ماذا فعلت تلك الأجهزة.. لا شيء؟. هم معروفون ويقومون بجرائهم علنا والأجهزة تتفرج او حتى تتستر وتقول الأدلة غير كافية”.
اليأس من امكانية تحقيق التغيير عبر الانتخابات وقبلها محاسبة الجناة، دفع البيت الوطني وهي احدى القوى المنبثقة عن حراك تشرين، الى اعلان انسحابها مع قوى تشرينية أخرى، عن المشاركة في الانتخابات. يقول حسين الغرابي وهو احد مؤسسي البيت:”لا جدوى منها في ظل عجز الحكومة أمام سطوة المليشيات وسلاحها.. كيف يمكنني ان انافسهم وكل اوراق اللعبة بيدهم”.
ويرى الغرابي أن هناك “تماهيا” من قبل الحكومة بالكشف عن المتورطين “المتورطون هي الأحزاب التي تمسك زمام السلطة، جميعها تمتلك ميليشيات ولديها سلاح خارج الدولة.. والاغتيالات تصب في صالحها لأنها تهدف لإنهاء الاحتجاجات عبر ترهيب الأصوات البارزة”.
ويعلق على اللجان التي تعمل على كشف المتورطين وملاحقتهم، قائلا “هي لجان شكلية لا تخرج بنتائج.. لا جدية لدى الحكومة بالكشف عن الجهات المتورطة، وصمتها عن ما يحصل يخيفنا.. نحن نحملها المسؤولية فواجبها حماية المتظاهرين واعتقال القتلة”.
يتفق النائب عبد القهار السامرائي، مع آراء النشطاء بشأن تقصير الحكومة في كشف الجناة “استبدال حكومة عبد المهدي بهذه الحكومة لم يكن ذا جدوى”.
ويضيف أن “ما كان يتأمله المتظاهرون لم تقم به هذه الحكومة، لذا هم ناقمون اليوم أكثر من الأمس.. والقوى التي تعمل خارج نطاق الدولة تزيد من احتقان الشارع”، مستدركا ان “إعادة الثقة للشعب الغاضب تأتي من خلال كشف هويات المجرمين وهذه اولوية قصوى للحكومة ومن دون ذلك فانها ستوصف كسابقاتها”.
الإبن المغيب والأب المقتول
في 10 اذار مارس 2021 تعرض جاسب حطاب الهليجي، والد المحامي المختطف علي جاسب، الى عملية اغتيال بمدينة العمار بمحافظة ميسان، بعد ساعات من مشاركته في مراسم الذكرى السنوية لمقتل الناشط الميساني البارز عبد القدوس قاسم.
جاسب، رجل كهل عرف بمشاركته في تظاهرات تشرين ونشاطه على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب اختطاف ابنه المحامي والناشط المدني في الثامن من تشرين الأول اكتوبر 2019 امام جامع الراوي وسط العمارة، وانقطع أثره من ذلك الحين.
وبحسب مقرب من جاسب، فانه قتل في منطقة “فلكة حي العامل” بالعمارة، بعد تقديم العزاء لعائلة عبد القدوس، والتي تقع بين منطقتين مؤمنتين، هما عواشة التي تحوي منازل مسؤولين، ودور النفط حيث تقع شركة النفط وهي منطقة مؤمنة أيضاً.
بعد ساعات، اعلنت الشرطة القاء القبص على الجاني “حسين عباس” وان الجريمة وقعت بسبب خلاف عشائري. فيما ذكر مجلس القضاء الاعلى في بيان أن “المتهم افاد في اعترافاته أن المجنى عليه (وهو زوج عمته) كان يتهمه باختطاف ابنه ما أدى الى حدوث خلافات وصلت لتقديم شكوى ضده. وان الضغوطات التي تعرض لها دفعته الى قتل المجنى عليه”.
إلا أن عائلة جاسب، بدت غير مقتنعة بتلك الرواية، وطالبت بمعرفة الجهة التي قامت بدفع الجاني الى عملية القتل، والجهة التي تقف خلف خطف ابنه علي.
طوال نحو عام ونصف كان جاسب يحاول اثارة قضية التغييب، ويشارك في الاحتجاجات وهو يرفع صورة ابنه المختطف وأحفاده الأيتام، مطالبا بكشف مصيره. يقول جاسب في احدى الفيديوهات “تم استدعاء الأشخاص المتهمين بالخطف او المساعدة فيه كشهود وليس كمتهمين.. رغم وجود أدلة في الاتصال الهاتفي والرسائل النصية”.
انتهى انتظار جاسم لمعرفة مصير ابنه المغيب بمقتله، لكن حفيداه سيكبران وسط دائرة الانتظار والانتقام بلا أب ولا جد، فيما ستحرق والدة سجاد أيامها الباقية بين وجع فقده وأمل رؤيته، تقول: “أريد معرفة مصيره حياً كان أو ميتاً.. اذا كان ميتا فليعلنوا عن مكان دفنه.. نحن لا نستحق كل هذا العذاب”.
انجز التحقيق بدعم من مؤسسة نيريج للصحافة الاستقصائية