بغداد/ شبكة نيريج/ آذار مارس 2023:
بمجرد استماعه لخبر حظر بيع الكحول في العراق، أجرى (ف،د 34سنة) من سكان بغداد الرصافة، اتصالات سريعة مع معارفه في محال بيع المشروبات، واتفق مع ثلاثة منهم على شراء كمية تغطي حاجته لأشهر، ملأ بها الحوض الخلفي ومقاعد سيارته الهونداي وحملها سريعا إلى منزله.
قال والزهو بادٍ في محياه:”كنا نعرف بأن الحكومة (تقودها أحزاب اسلامية) ستفعل ذلك في وقت ما، لذلك أخذت كميتي التي كنت متفقاً مسبقاً مع البائع على سعرها دون أي اضافة، ولأنه لا يظهر في قانون الحظر أي إشارة إلى وجود الكحول في المنازل، لذا أنا بمأمن ما دمت لا أبيعها!”.
ذكر ذلك قبل دخوله في نوبة ضحك إرتج معها كرشه الضخم، ثم قال وهو يستعيد جديته: “انها عباءة الدين مرة أخرى، المحتوى الهابط أولاً، وبعد ذلك الكحول، وغداّ سيفرضون قوانين تتعلق بالثياب.. يظهرون أنفسهم بثياب الورع والتقوى بينما فسادهم وحكايات سرقاتهم تملأ الأرض والفضاء”.
وتفاجأ العراقيون في 20 شباط فبراير بنشر قانون تمنع احدى مواده بيع الكحول وصنعها والتجارة بها، بعد أكثر من ست سنوات على تشريعه، في خطوة وصفها نواب وكتاب ونشطاء بأنه انتهاك جديد للدستور وتجاوز على حقوق المواطنين عموما وبشكل خاص أبناء المكونات الدينية من غير المسلمين، معتبرين ما يحصل هو خطوة جديدة باتجاه تحويل العراق الى ايران ثانية.
لا يخفي (د.أ) وهو موظف متقاعد من المكون المسيحي، انزعاجه من القرار ودهشته مما يجري في بلد يفترض أن فيه تعددية دينية وحريات فردية محمية بموجب الدستور، يقول ساخرا “انها مثل الحملة الايمانية لصدام . يصدرون قوانين عجيبة تخالف المنطق ولا سبيل لتطبيقها في بلد فيه مسيحيون وايزيديون وعلمانيون ولا دينيون”.
يتابع بغضب :”المصيبة أن هؤلاء ذاتهم في اللقاءات الدولية يعرضون أنفسهم كحماة لحقوق الإنسان والمكونات والحريات الفردية والتعددية”.
يصمت للحظات قبل أن يكمل: “لن ينجحوا في تطبيقه، فمدن كردستان غير معنية به أصلا، بل أن المتاجرين به اليوم وهم مسؤولون أو مدعمون من مسؤولين في الأحزاب الاسلامية والمليشيات الحاكمة، سيمضون في تجارتهم ويبيعون لكن بأسعار أعلى”.
وجاء قرار حظر بيع الكحول، ضمن مادة بقانون البلديات الذي شرع قبل أكثر من ست سنوات، ثم ظهر فجأة في صحيفة الوقائع العراقية، ليدخل حيز التنفيذ، ما يعده تناقضاً بين القوانين والقرارات التي تصدرها الحكومة العراقية، ولا سيما أن مجلس الوزراء العراقي كان قد قرر في منتصف شباط/فبراير 2023 زيادة الرسوم الجمركية على استيراد الكحول بنسبة 200%.
وكان مجلس النواب العراقي قد صوت في اللحظات الأخيرة من اجتماع له عقد في 22 تشرين الأول 2016، رأسه سليم الجبوري وبحضور 226 نائبا، على قانون واردات البلديات، لكن الرئيس الأسبق فؤاد معصوم لم يصادق عليه، لذا لم يدخل مرحلة النفاذ إلا بعد نشره في جريدة الوقائع الرسمية -العدد 4708 في 20 شباط/فبراير2023.
ونصت الفقرة أولاً من المادة الرابعة عشر من هذا القانون على:”حظر استيراد وتصنيع وبيع المشروبات الكحولية بكافة أنواعها”. فيما نصت الفقرة الثانية على إيقاع عقوبة على المخالف بغرامة لا تقل عن 10 ملايين دينار(6885 دولار) ولا تزيد عن 25 مليون دينار(17148دولار).
المحامي علي ذنون، قال بأن تشريع أي قانون يتم بعد تصويت مجلس النواب عليه ومن ثم يرسل إلى رئيس الجمهورية ليصادق عليه بدوره ويرسله إلى وزارة العدل لتقوم بنشره في الجريدة الرسمية والتي هي الوقائع العراقية، وتصبح بنوده سارية النفاذ من ذلك التاريخ، أي النشر وليس من تاريخ مصادقة أعضاء مجلس النواب على القانون”.
ورجح المحامي أن يكون عدم إرسال القانون للنشر في الجريدة الرسمية في أواخر 2016 على الرغم من تشريعه والتصويت عليه برلمانياً، هو بسبب انشغال المسؤولين بالحرب ضد تنظيم داعش وقتها (2014-2017) وأن العديد منهم بما فيهم نواب من كتل مختلفة كانوا منشغلين وقتها بقيادة جماعات مسلحة لمواجهة التنظيم.
وأضاف: “كما أعتقد بأن قادة الأحزاب المؤلفة للحكومة ومعظمها ذات طابع ديني أرادوا التريث في تنفيذ القانون لحين التخلص الكامل من داعش الذي كان متهماً بالتطرف الديني وتطبيق قوانين تحريم على أشياء عديدة بينها الخمور، لذا لم يريدوا أن يتم مقارنة أحزابهم بداعش”.
ولفت إلى أن القانون اذا طبق فسيشمل المحافظات خارج أقليم كردستان فقط، ويفسر ذلك:”جهات مسؤولة في اقليم كردستان كانت في الأصل معترضة على تشريع القانون في 2016، كون الكثير من سكان الأقليم هم من المسيحيين والإيزيديين، كما أن هنالك الكثير من الأجانب، وفوق هذا فأن القطاع السياحي في الأقليم واسع ونشط، وحظر الكحول سيشكل ضربة موجعة له وللعاملين في النوادي والبارات والفنادق”.
وفي 4 آذار/ مارس 2023 وجهت الهيئة العامة للجمارك العراقية، كتاباً الى كافة المناطق والمراكز الجمركية بمنع دخول المشروبات الكحولية بكافة أنواعها، استنادا إلى قانون واردات البلدية.
لكن المدير العام لجمارك حكومة إقليم كردستان، سامال عبدالرحمن، ذكر في تصريح صحفي أن “أي قرار يصدر عن الحكومة العراقية يجب أن يمر عبر مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان، وأن تتم الموافقة عليه قبل تنفيذه”، مبينا أن “مجلس الوزراء لم يطلعنا على هذا”.
مخالف للدستور
القانون وتوقيت إدخاله حيز التنفيذ، أثار جدلاً في الشارع العراقي ولاسيما أنه وفقاً للبعض يتعارض مع ضمان الحريات التي نص عليها الدستور العراقي ويؤثر على حياة وفرص عمل أقليات تشكو اساسا من التضييق كالإيزيديين والمسيحيين، خاصة أن تشريعاتهما الدينية لا تحرم تناول أو تداول الكحول، وكثيرون من أبنائهما يعتاشون على بيعها.
البعض الآخر عدها خطوة من أحزاب مشتركة في السلطة يتهمونها بأنها وراء الترويج للمخدرات التي أصبحت ظاهرة متفشية في البلاد خلال السنوات الأخيرة. بينما هنالك من ينظر إلى الأمر بأنه جزء من تحول النظام العراقي إلى دكتاتوري، يقيد الحريات الشخصية، ويفرض قوانين مصدرها ديني (إسلامي) على فئات عراقية ذات خلفيات دينية أخرى مختلفة.
عضو مجلس النواب العراقي شريف سليمان علي، عن المكون الإيزيدي ضمن التحالف الديمقراطي الكردستاني عبر في بيان أصدره يوم الثلاثاء 28شباط/فبراير2023، عن استغرابه من تفعيل القانون على الرغم من معارضته لبنود في الدستور تؤكد على “حماية وصيانة الحريات العامة والخاصة والخصوصيات الشخصية ومبدأ الديمقراطية” وان العراق بلد متعدد الأديان والمذاهب والثقافات.
وذكر النائب في بيانه أن حظر الخمور “محاولة لتغيير نهج الدولة وجعلها ذات طابع آخر، لا يفهمه ولا يقبله الشعب العراقي، خاصة ونحن في مرحلة بناء الدولة على أسس متطورة”.
ورأى بأن القانون سيؤثر على “أعداد هائلة من أبناء الشعب العراقي”. ثم ذكر مثلاُ شعبياً مشهوراُ هو: “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”.
ودعا المحكمة الإتحادية العليا لرفض القانون وقبول الطعون التي ستقدم ضده، كما طالب الحكومة المركزية بالبحث عن بدائل لذلك القانون.
ومرد اعتراض النائب شريف سليمان، يأتي من معرفته التامة بما سيجره قانون الحظر على الكثير من الإيزيديين الذين يصنعون أو يبيعون الكحول أو يعملون في نطاقها بنحو عام، وقسم منهم موزعون في انحاء العراق، وتطبيق القانون يعني زيادة البطالة في المجتمع الإيزيدي الذي يعاني في الأصل من مشاكل اقتصادية وغالبيتهم العظمى نازحون في أقليم كردستان.
أما عضو مجلس النواب العراقي عن المكون المسيحي فاروق حنا عتو ، فقد أكد في تصريحات صحفية بأن ماجاء في قانون واردات البلدية “منافِ للدستور العراقي”. وأشار بدوره إلى أنه كان قد شرع قبل أكثر من ست سنوات لكن “أرجئ تنفيذه لحساسية الموضوع”.
وذكر هو الآخر بأن في العراق تعددية دينية:”ولايمكن فرض هكذا قوانين على الجميع، لأن هنالك من يتعاطى الكحول، فيما تعد هذه المشروبات محظورة لدى البعض الآخر وتمثل خطأ أحمر”.
(خدر،س- 63 سنة) نازحٌ منذ أكثر من ثماني سنوات في مخيم للايزيديين في مدينة زاخو بأقليم كردستان، ذكر بأنه كان يملك متجراً للمشروبات الروحية في قضاء سنجار كان قد ورثه عن أبيه الذي كان قد ورث المهنة عن جده، لكن عناصر داعش الذين هاجموا القضاء في 3 آب/أغسطس 2014، دمروا متجره وما كان في مخزنه فتعرض لخسارة كبيرة جعلته مفلساً.
ويقول بضيق شديد:”أخيراً وقفت على رجلي مجدداً واستأجرت مطعماً أقدم فيه المشروب لزبائني، فهل سيجبرونني على التوقف عن ذلك بقانونهم؟”. ويقترح:”أنا مستعد للتوقيع لهم على تعهد بانني لن أبيع لغير الإيزيديين والمسيحيين، في أوربا يطلبون البطاقة الشخصية من الزبون للتأكد من أن عمره أكثر من 18 لكي يبيعوه الكحول، أنا سأطلبها لكي أتأكد من هويته الدينية!”.
النائب أسو الكلداني، رئيس كتلة بابليون في مجلس النواب العراقي، قدم يوم5آذار/مارس2023 طعناً بقانون واردات البلديات لدى المحكمة الإتحادية العليا بدعوى أن المادة الرابعة عشر منه المتعلقة بحظر استيراد وبيع وتصنيع الكحول تعارض مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات الأساسية التي نص عليها الدستور العراقي في الفقرتين(ب و ج ) من الدستور العراقي لسنة 2005.
وتعارض كذلك المادة الثالثة من الدستور التي نصت على أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وحذر الكلداني في طعنه من أن يؤدي حظر الكحول إلى انتشار تهريبه وتفشي الفساد في المنافذ الرقابية مع زيادة تعاطي المخدرات في المجتمع.
ولم يصدر أي تصريح لمسؤول أو برلماني عراقي، حتى من الكتل الاسلامية، مؤيد للقانون على الرغم من مرور عدة أيام على دخوله مرحلة التنفيذ، وتفسير ذلك وفقاً لمراقبين، هو علمهم بتعارضه مع الدستور وأيضاً لكونه يهدر مبالغ كبيرة كانت تذهب لميزانية الدولة كضرائب ورسوم كمركية على استيراد وتصنيع الخمور، كما انه يحرمهم من أرباح تجارة كانوا يسيطرون عليها.
وهنالك من يرى بأن امتناعهم عن إبداء أي تعليق، هو لتجنب الخوض في موضوع هو محل خلاف بين المكونات الدينية ويثير انتقادات من شرائح وان لم تكن واسعة، كما ان تأييده ربما يدخلهم في دائرة التشدد ولاسيما أن معظمهم ينتمون لأحزاب ذات خلفية دينية، وبالتالي يتخوفون من مقارنتها بالتنظيمات المسلحة المتشددة كالقاعدة وداعش اللذين استهدفا منذ 2003 باعة الكحول، والأخير حرمها ووضع عقوبات وصلت للإعدام لمن يتعاطاها أو يبيعها في المناطق التي سيطر عليها بين 2014-2017.
لكن رجال دين وبعض الكتاب والمدونين القريبين من قوى الاطار التنسيقي التي تقود الحكومة، رحبوا بالقانون. وعلق الكاتب رشيد السراي، على التحذيرات التي اطلقها مدونون من أن حظر المشروبات الكحولية سيزيد من استخدام المخدرات، بالقول “علمياً وإحصائياً الخمور أكثر ضرراً من المخدرات ولا توجد دراسة تقول إن منع الخمور أو تقليل تداولها يزيد من انتشار المخدرات، ومن يقول ذلك أما هدفه انتقاد الحكومة بأي شيء حتى لو كان تصرفاً صحيحاً أو يريد “يحصل شرب” بسعر أرخص”.
الطعن المقدم من زعيم كتلة بابليون الى المحكمة الاتحادية
على خطى إيران
يرى الناشط الايزيدي مراد اسماعيل، أن ما يحدث هو “فرض للشريعة الإسلامية على غير المسلمين ما يشكل انتهاكا صارخا للدستور ولحقوق الأقليات والحقوق المدنية ويضع العراق على طريق خطير”.
وكتب على صفحته الشخصية في منصة فيسبوك: “90% من مشرعي قوانين تحريم المشروبات الكحولية في العراق يتعاطوها هم انفسهم ويتفاخرون بذلك امام السفراء والمسؤولين الغربيين. فلم كل هذا الاكساء بالتدين والرياء؟”.
ويلفت اسماعيل الى أن “الأديان غير المسلمة لا تحرم المشروبات الكحولية، لكن هذه القوانين تفرض عليهم نفس العقوبات!”.
وينقل عن رجل أعمال أيزيدي يعمل في بغداد، قوله “هذا القانون سيؤثر على وظائف عشرات الآلاف بمن فيهم ٥٠٠ عامل أيزيدي يعملون في هذا المجال بالعاصمة بغداد”.
ويرى اسماعيل، الذي يرأس منظمة ايزيدية ناشطة في سنجار، أن المشكلة أعمق بكثير من بضعة آلاف من الوظائف “إنها تمهد الطريق لأسلمة الدولة لتتناسب مع النسختين الإيرانية والأفغانية”.
ومع هذا يرى نواب ومسؤولون من قوى مختلفة، أن عمليات بيع وتداول المشروبات الكحولية تحتاج الى قانون لتنظيمها وليس منعها، لكنهم يتحاشون الاعلان عن مواقفهم في ظل سطوة قوى اسلامية أو مراعاة لرأي غالبية مجتمعية مسلمة.
يقول النائب السابق عن المكون الايزيدي صائب خدر، ان المشروبات الكحولية كانت مجالا كبيرا للفساد منذ 1991 وان “عدم تنظيمها قانونيا سيجعل ذلك ظاهرة تقيد الحريات وتشجع على الفساد فمنعها ليس حلا واقعيا وانما تنظيمها”.
وانتقد السياسي العراقي المستقل مثال الالوسي، إعلان الهيئة العامة للجمارك منع دخول المشروبات الكحولية الى العراق تنفيذا لقانون حظرها، وقال في تصريحات صحفية إن الأحزاب الموالية لإيران “تريد جعل بغداد دولة إسلامية من خلال تطبيق هكذا قوانين مخالفة للدستور”، مبينا ان في البلد توجهات دينية وثقافية مختلفة “ولا يمكن فرض رأي أطراف متشددة على آراء العراقيين”.
ويرى هو كذلك مثل كثيرين غيره، أن الخطوة ربما تهدف الى زيادة تجارة المخدرات في العراق خصوصاً انها تصب في صالح الجهات، ذات توجه ايراني، تعمل على ادخال المخدرات والمتاجرة بها، وفقاً لما ذكر.
الناشط المدني (م،ز)، يعتقد بأن العراق يستنسخ شيئاً فشيئا التجربة الإيرانية، بفرض قوانين يراها تعسفية، و”تغلب مصلحة فئة محدودة على باقي الفئات والتوجهات في المجتمع”.
ولا يستبعد أن تشهد المرحلة اللاحقة ظهور من يطالبون بتحويل العراق إلى(جمهورية العراق الإسلامية) على غرار(جمهورية إيران الإسلامية) على حد قوله.
ويقول مستغرباً “كنا نعتقد بأن زوال الجماعات التكفيرية سينهي مرحلة التشدد ويعود العراق على ما كان عليه من انفتاح قبل نشوء الدكتاتورية”.
أما الكاتب المختص بالقضايا المحلية نادر عبد السلام، فينفي أن يكون للمادة المتعلقة بحظر الكحول خلفية دينية، وقال:” بل هو فقط لإرضاء النظام الإيراني الذي يفرض بصمته على مختلف مناحي الحياة في العراق وبضمنها الشق السياسي”.
وذكر بشيء من السخرية: “لن نفاجأ مطلقاً لو ظهرت فجأة سوق سوداء لبيع الكحول المصنع في إيران، لأنها المستفيد الأول والأخير من بعض القوانين والقرارات التي تسن أو تصدر في العراق والتي ليست فيها أية فائدة للشعب العراقي ومصلحة البلد العليا”.
ثم أضاف بجدية” لدينا حدود يصل طولها إلى أكثر من 1400 كيلو متر مع إيران، وستكون المرحلة المقبلة، مليئة بالأخبار المتعلقة بتهريب الكحول عبر تلك الحدود إلى داخل العراق، وستنشأ طبقة ثرية جديدة في البلاد جراء ذلك”.
تجارة سرية ومنتفعون
يقول صاحب متجر كحول وسط بغداد، وهو رجلٌ في عقده السادس طلب عدم ذكر أسمه، بأنه يشهد إقبالاً منقطع النظير على شراء مختلف أنواع الكحول منذ الإعلان عن بدء تنفيذ القانون، وهو ينتظر مثل غيره إبلاغه رسمياً بذلك، لكي يتوقف عن البيع العلني ويتوجه لبيعها سراً كما اعتاد فعله في فترات سابقة.
وذكر بان النظام العراقي فرض حظراً مماثلاً في منتصف تسعينيات القرن المنصرم تماشياً مع ما سمي في حينها بـ(الحملة الإيمانية) التي كان الرئيس العراقي الراحل صدام حسين قد اطلقها لإضفاء الطابع الديني على نظامه. ثم تعرض متجره لهجوم مسلح في 2007 بواسطة من وصفهم بالجهاديين، واضطر وفقاً لما قاله إلى دفع إتاوة لكي يغضوا الطرف عنه.
وأضاف:”تعرض محلي لهجوم آخر في بداية 2017، وهذه المرة كانوا عناصر ميليشيا في الحشد الشعبي، ووصلتني تهديدات بالتصفية، فقمت ببيع ما لدي سرا بعد تلك الحادثتين ولفترات متفاوتة، ثم زاولت عملي بشكل علني. وأشار إلى أن مبيعاته ترتفع ودخله يزيد عندما يتم حظر الكحول او التضييق على من يبيعونه، لأنه يرفع الأسعار قياسا لإرتفاع الخطورة، خاصة أنه يملك الكثير من الزبائن، وجهات نافذة يستعين بها للحصول على الكميات التي يريدها، على حد تعبيره.
إشارة تاجر الكحول الأخيرة بوجود جهات يمكنها أن توصل إليه كميات الكحول التي يرغب بها، وهي التي يشير اليها ناشطون معارضون لقانون الحظر، إذ أنهم يزعمون بوجود فصائل مسلحة تمول نفسها عن طريق تهريب وتوزيع الكحول والمخدرات، ولديها حصص مالية شهرية من مراقص ليلية ودور دعارة نظير توفير الحماية لها.
الناشط السياسي(مروان، ف) يتهم مسؤولين (دون أن يسميهم) بتحقيق منافع مالية كبيرة جراء تطبيق قانون واردات البلديات، لأنهم:”يملكون أدوات تسهل على المهربين إدخال الكحول وتوزيعها بأضعاف أسعارها التي كانت عليه قبل تطبيق القانون”.
وقال بأنهم أنفسهم وراء تفشي ظاهرة المخدرات التي تدخل البلاد من إيران وسوريا “حتى أصبح العراق مركزا لتداول المخدرات بعد أن كان مجرد معبر” وفقاً لزعمه.
ومن الناحية الاقتصادية يقول الناشط مروان:”في العراق مئات الآلاف ممن يتناولون الكحول، إن لم يكونوا بالملايين، غالبيتهم العظمى مسلمون، ومنع استيراد الكحول، يعني خسارة الدولة للضرائب التي تفرضها عليها وهي بملايين الدولارات سنوياً، هذا فضلاً عن الخسائر التي ستلحق بها، اثر وقف اعمال مصنعي الخمور المحليين، الذين كانوا يوفرون عملة صعبة من خلال تصديرها”.
وكان النائب السابق فائق الشيخ علي، قد ذكر في مؤتمر صحفي عقده في مجلس النواب بعد تصويت المجلس على قانون ورادات البلديات في تشرين الأول/أكتوبر 2016 بأن المادة المتعلقة بالخمور” دخيلة، ونحن كلجنة قانونية كنا قد حذفناها واعترضنا عليها، ولدينا قرار ومحضر يثبت هذا الأمر”. وأن من مررها استغل الظرف القائم، ويقصد بذلك الحرب ضد داعش.
وذكر بأن العراق فيه صالات قمار لا يوجد مثلها حتى في “مونتيكارلو أو لندن ، وارداتها اليومية مليونا دولار تتقاسمها بعض الأحزاب الدينية الشيعية التي تمتلك ميليشيات هنا في العراق”، وقال كذلك بأن “حزباً شيعياً يحمي الملاهي الليلية في العراق مقابل أموال تدفع له من قبلها” وأن هنالك “حزب ديني شيعي ثالث يوفر الحماية للبارات”.
واتهم الشيخ علي، بعض الأحزاب الدينية بالتمويل نفسها:”من الكحول والقمار والمومسات منذ سنوات” وأن هذه الأحزاب نفسها تريد اليوم منع الكحول لترويج تجارة المخدرات “مدمنو الكحول سيستبدلونها بالمخدرات التي تهربها تلك الأحزاب من إيران كحبوب مخدرة وتوزعها في العراق”.
الباحث المغترب عادل كمال، يجد بأن حملة استهداف صانعي المحتوى التي سبقت تنفيذ بند القانون المتعلق بحظر الكحول، “أصبحت مفهومة الآن بنحو جلي، فالسلطة أرادت تخويف كل من سيعترض على قوانين ستمررها، لأن كل من سيعبر عن رأيه إزاء موضوع الكحول سيعد صانع محتوى هابط ويحال إلى القضاء”.
وتوقع أن يحدث ضغط دولي على الحكومة العراقية بهدف منح الأقليات غير المسلمة التي لا تحرم الكحول استثناءات من القانون، وأن ذلك قد يظهر قريباً بعد طعون يقدمها ممثلون عن تلك الأقليات للمحكمة الإتحادية أو أن تقوم بذلك تكتلات الأحزاب في مجلس النواب” لتظهر نفسها بمظهر ديمقراطي” على حد تعبير الباحث عادل.
مضار اجتماعية
يقول د. عوني مخلص غانم وهو خبير إجتماعي، بأن “أي قانون يتم اقتراحه، يجب ان تراعى فيه مصلحة المجتمع، والأثار الجانبية لتطبيقه، من أجل تهيئة سبل مواجهتها لكي يحقق القانون الأهداف التي سن من أجلها”. ويتابع:”لكن يبدو أن أعضاء مجلس النواب لم يخطر في بالهم هذا أو لم يهتموا به مطلقا، وكان الأفضل لهم أن يضيفوا أو يعدلوا على قانون إجازة المشروبات الروحية لسنة 2001 أو في الأقل يطلعون عليه”.
ويحذر د. عوني من الأثار التي وصفها بالخطيرة جراء حظر الكحول، ويقول موضحاً:” إذا كان الهدف من القانون هو إصلاحي لتجنيب الجيل الحالي من الشباب معاقرة الخمر، فعلى من شرعه أن يعلم بأنه وبدلاً من ذلك سيزداد إقبال الشباب على تناول الكحول، ليس فقط بالاستناد إلى القاعدة المعروفة بان كل شيء ممنوع مرغوب، بل لأن شرب الكحول سينتقل من الأماكن العامة التي هي البارات وما شابه، إلى داخل المنازل وعلى مرأى من الأطفال فيعتادون عليها”.
وضرب مثالاً على ذلك: “أغلب الدول التي فيها الدين مصدر أساسي لقوانينها، تجرم الدعارة وتفرض عقوبات على المتاجرين بالجنس، لكن مع ذلك يسمحون بمناطق خاصة للدعارة، بل أن في بعض عواصم هذه الدول أو مدنها الكبرى حيٌ خاص بالدعارة”.
والسبب كما يراه، هو حماية المجتمع من أثار المنع الكامل، لأن تلك التجارة ستنتقل بنحو سري إلى داخل الأحياء السكنية مع كل ما فيها من مشاكل وتداعيات. وبناءً على ذلك يرى ضرورة أن يحدد القانون أماكن معينة يسمح فيها بتناول أو بيع الكحول.
ويعدد د. عوني الأضرار التي ستلحق بالمجتمع جراء تعاطي الكحول في المنازل: “ارتفاع معدلات المشاكل الأسرية وأكثرها بين الأزواج، سهولة الحصول عليها من قبل الشباب والمراهقين، التأثير عن الحالة الاقتصادية للأسرة التي فيها شارب كحول بسبب ارتفاع اسعارها مقارنة بالسابق، قد يشكل بعضها خطراً على الصحة لكون تداولها يتم سراً بعيداً عن أي رقابة، وأخيراً سيلجأ الكثيرون إلى تصنيعها في داخل المنازل ولاسيما التي تستخدم فيها التمور كمادة أساسية ” .
سلوان زكي، مهندسٌ شاب من العاصمة بغداد، متزوج ولديه طفلان صغيران، قال بأنه كان يتناول الكحول مرة في الأسبوع مع أصدقاء له في أحد الفنادق الكبرى، وسيضطر الآن لفعل ذلك في المنزل على الرغم من أنه سبق وأن خاض جدالاً محتدما مع زوجته الرافضة لذلك.
ويقول:” أخبرتها بأنني سأتخذ إجراءات احترازية ولن يعرف الطفلان مطلقاً بما سأقوم به، ساستخدم غرفة المخزن بعد منتصف الليل، لكنها رفضت أن يدخل الكحول المنزل مطلقاً وهددتني بأن تأخذ الطفلين وتذهب لبيت أهلها”.
يصمت سلوان برهة ثم يتابع بحدة:”ألم يكن بوسع أعضاء مجلس النواب معالجة مشاكل وازمات أخرى تعاني منها البلاد، مثل البطالة، الكهرباء، الفساد، انحدار التعليم، تدهور الصحة”.
يرفع سبابته ويقسم “والله كانوا سيحصلون على أجر وثواب أكبر بكثير من قانون يهدفون به التضييق على حياتنا وملئ جيوبهم بالأموال التي سيجنونها من تهريبها وبيعها بأسعار أعلى”.
- أنجز التقرير بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الإستقصائية ونشر على موقع درج.