آذار مارس 2023:
وجهت نخب عراقية مذكرة احتجاج شديدة اللهجة الى لأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، انتقدت فيها بشدة صمت بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) وممثلة الأمين العام جنين بلاسخارت، على ما وصفته بـ”الانتهاكات الخطيرة” للحريات العامة وحقوق الإنسان في العراق والتجاوزات على الدستور والقوانين العراقية والأعراف الدولية التي وقع عليها العراق، محذرة من نشوء “دكتاتورية جديدة” في البلاد “برعاية أممية” اذا استمر مكتب يونامي في انتهاج السياسة الحالية في الصمت على الانتهاكات المتوالية من قبل القوى الحاكمة في البلاد.
عدد الموقعين على المذكرة في اليوم الأول لنشرها بلغ 1000 شخص، بينهم باحثون كبار وأكاديميون وصحفيون وسياسيون وناشطون معروفون.
السيد الأمين العام للأمم المتحدة
تحية احترام وسلام
نحن، الموقعين في أدناه، من منظمات مجتمع مدني، وأكاديميّين وصحفيين وناشطين،ونخب، نعرب لكم عن قلقنا البالغ إزاء ما يجري في العراق من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان والحريات العامة، وسط صمت غريب وغير مبرر من بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، ومكتب حقوق الإنسان التابع لها والمسؤول عن إعداد التقارير الخاصة بالوضع الإنساني والحريات في العراق، ففي خلال أكثر من 100 يوم على تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة السيد محمد شياع السوداني، لاحظنا قيام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بخطوات تنتهك بشكل خطير حرية التعبير التي كفلتها مواد مختلفة من الدستور أهمها (2، 38، 46)، كما تخرق بوضوح التزامات العراق الدولية في هذا الشأن، بما يُعد تهديداً مباشراً لجميع الحقوق المكتسبة بعد 2003، وإنهاءً لثقافة المعارضة والاعتراض، وعودةً بالبلاد إلى الحقبة الشمولية السابقة. وبالرغم من أنّ تلك الخطوات المهدّدة للحريات تمت في وضح النهار عبر أوامر قضائية وتحركات حكوميّة ومحاولات لإصدار قوانين جديدة، إلا أننا لمسنا تغييباً لذكرها في الإحاطتين الأخيرتين لممثلة الأمين العام السيدة جينين بلاسخارت، بينما هي قضايا تمسّ مستقبل الديمقراطيّة في العراق، الأمر الذي يضع علامات استفهام جدّية حول الدور الحقيقي لبعثة الأمم المتحدة في العراق، وحول مدى التزامها بمهامها الواردة في قرارات مجلس الأمن التي منحتها الولاية بشكل متجدد كلّ عام، وصولاً إلى القرار الأخير المرقم (2631) للعام 2022، الذي نصت الفقرة (د) منه بتكليف رئيسة البعثة في العراق بـ”تعزيز المساءلة وحماية حقوق الإنسان والإصلاح القضائي والقانوني”.
وللتوضيح، نؤشر صمت بعثة “يونامي” عما يجري تحت أنظارها من انتهاكات شغلت النقاش العام وصدرت بسببها بيانات ومنشورات تحذيرية من نخب عراقية في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، نورد منها ما يأتي:
1. في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2022، قام مجلس النوّاب العراقيّ بالقراءة الأولى لبعض التشريعات التي تقوض حرية التعبير والمعارضة بحجة “تنظيم الحريّات”، في المقدمة منها “قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي” و”قانون جرائم المعلوماتية”، وهما قانونان سبق أن رفضهما العراقيون بشكل واسع عندما حاولت قوى السلطة الحالية نفسها تمريرهما في العامين 2011 و2017، وحينها أصدرت المنظمات الدولية المعنية بالحريات بيانات شديدة اللهجة ضدهما. كلّ من القانونين يتضمنان مفاهيم عامة وعبارات فضفاضة تتيح للسلطات استخدام تفسيراتها الواسعة لقمع الخصوم، كما إنهما يعيدان العمل بمواد قانونية قمعية موروثة من النظام السابق لحماية السلطة الحالية من النقد والمحاسبة العامة. يشار إلى أنّ هذه المواد جرى تعليق العمل بها بعد 2003 بموجب قرارات سلطة الائتلاف المؤقتة آنذاك لأنها وجدتها لا تتناسب مع العهد الديمقراطيّ الجديد.
2. تسعى السلطات العراقية أيضاً للسيطرة بشكل قمعي على فضاء الإنترنيت واستخدام الحواسيب والأجهزة الإلكترونية، وهي تحاول الآن إصدار مايسمى بـ “لائحة المحتوى الرقمي في العراق” التي نشرت في بعض وسائل الإعلام بتاريخ 14/ 2/ 2023، وتتضمن أيضاً مفاهيم عامة وعبارات فضفاضة لا يمكن بلوغ معنى محدد لها وتتجه جميعاً إلى منع نقد الدولة ومؤسساتها وشخوصها، وبموجبها يتم فرض عقوبات حظر إلكتروني على الأشخاص والمؤسسات المدنية وإلغاء الحسابات ومنع الوصول الحر للشبكة الدولية والغرامات العقابيّة الباهظة.
3. إن تقييد حرية الانترنيت التي تعمل عليها السلطات في العراق، من خلال لائحة تنظيمية، يمثل مخالفة للمعايير الدولية في تنظيم الحقوق والحريات والتي توجب ان يكون تنظيم الحقوق والحريات بتشريع يصدر من الجهة المختصة بالتشريع باسم الشعب، لا من قبل هيئة اخرى منبثقة بقانون يسمح لها التقييد بشكل جزافي.
4. في الأسبوعين الأخيرين، تقوم قوى السلطة بسباق محموم داخل مجلس النوّاب لإعادة العمل بقانون الانتخابات السابق، الذي تسببت احتجاجات تشرين الضخمة (2019-2020) بتغييره إلى قانون جديد يلبي حاجة القوى الناشئة والمرشحين الفرديين، وقد تم بالفعل تطبيقه بنجاح في انتخابات 2021 فصعدت قوى وشخصيات جديدة كان القانون السابق يحرمها من الفرص العادلة للمنافسة.
5. تقوم السلطات العراقية منذ أواخر كانون الثاني (يناير) 2023 بحملة ترهيب لعشرات الآلاف من المواطنين تحت عنوان “مكافحة المحتوى الهابط”، أقحمت فيه السلطات نفسها في قضايا تتعلق بالفن السطحي والذوق العام من دون أيّ سند قانوني أو دستوري، ومن دون تحديد واضح لمعنى “المحتوىالهابط”.وخلطت في إجراءاتها بين المحتوى الرقمي الذي يتضمن جرائم محددة كـ”الابتزاز” و”التحريض” و”الإرهاب” والمحتوى الرقمي الذي يتضمّن مواقف كوميدية تافهة لا تنطوي على جرائم، وقد جرى تطويع بعض المواد القانونية الموروثة من النظام السابق لتسويغ هذه الحملة تحت مفاهيم عامة لا معنى محدد لها مثل “الآداب العامة” و”الأخلاق” و”الذوق العام”.وبسبب هذا التطويع القانوني صدرت قرارات قضائية بسجن عدد من المشهورين في وسائل التواصل الاجتماعي بمدد مختلفة تصل إلى سنتين، كما نشرت وزارة الداخلية عبر منصاتها تسجيلات مصورة تفخر فيها بالتنكيل المنهجي بالمعتقلين وإهانتهم علناً بحجة الدفاع عن الأخلاق، في إجراء ينتهك حقوق المتهم أثناء التحقيق وفق المواثيق والمعاهدات الدولية.
6. في 8 شباط (فبراير) 2023، ولاحقاً بالحملة المشارإليها في الفقرة السابقة، أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى إعماماً إلى المحاكم العراقية في كلّ مكان، يأمرها فيه بتوسيع حملة “المحتوى الهابط”، لتشمل ما سمّاها “الإساءة المتعمدة” إلى “مؤسسات الدولة بمختلف العناوين والمؤسسات” من دون توضيح معنى “الإساءة المتعمدة” أو تحديد الفرق بينها وبين النقد والمعارضة السياسية، في وقت لا يدخل إصدار هذا التعميم ضمن صلاحيات رئيس مجلس القضاء، بل هو اختصاص حصري للمدعي بالحق العام.
7. إلحاقاً بالنقطتين السابقتين، أعلنت وزارة الداخلية بتاريخ 20 شباط (فبراير) 2023، عن تسجيل أكثر من 100 ألف شكوى تخص المحتوى الهابط،وهذا يعني احتمال وقوع 100 ألف شخص تحت عقوبات لا سند قانونياً لها، وهو أمر يظهر حجم الكارثة المحتملة، التي قد تفتح الباب أمام تزايد الدعاوى الكيدية، في ظل نظام يعاني منذ سنوات من مشاكل وانتهاكات في مراحل التحقيق بحسب تقارير المنظمات الدولية المعنية، ما يشكل انتهاكا ممنهجا لحقوق الانسان.
8. فشل معالجة ظاهرة الأحزاب المسلّحة التي تقوم عملياً بالالتفاف على القانون وتستخدم سلطة الأقوى لفرض الإرادة،وتدير دولة عميقة مسلحةموازية للدولة الظاهرة للعلن (في هذه النقطة بالذات نشير إلى عدم ظهور أيّ عمل جدي ومتواصل من ممثلية الأمم المتحدة لحث الأحزاب المسلحة على ترك السلاح والانتقال إلى العمل السياسي المدني بما يدعم الديمقراطية في العراق).
9. استمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في جرائم السنوات السابقة، أبرزها قتل المتظاهرين وخطف الناشطين والإعلاميين وترهيبهم وتهريب النفط والاتجار بالمخدرات، ثم التقاعس عن التحقيق في قضايا الاختفاء القسري للمواطنين الذين يعبرون عن آرائهم السياسية المعارضة، والصمت إزاء عرقلة محاكمة المتهم بقتل الباحث الاستراتيجي هشام الهاشمي.
10. تنامي الجرائم والانتهاكات الإنسانية الخطيرة في الآونة الأخيرة، وبوادر عودة الشحن الطائفيّ الذي دمر موارد العراق البشرية والمادية طوال مرحلة ما بعد 2003، بما في ذلك استثماره سياسياً، لا سيما أنّ بعض هذه الجرائم يصعب جداً تنفيذها من دون اختراق الأجهزة العسكرية الأمنية، نشير بهذا الصدد إلى حادثة الهجوم المسلح في 16/ 2/ 2023على قوة تابعة للجيش العراقي في الطارمية (30 كلم شمالي بغداد) وقتل وجرح عشرة أفراد منها (أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنه)، ثم بعدها بثلاثة أيام هجوم مقابل طائفياً على قرية “الجبايلة” في ديالى، وقتل تسعة أشخاص من مزارعيها، فضلاً عن الجرائم التي تستهدف الفاعلين اجتماعياً والكفاءات العلمية، مثل اختطاف الناشط البيئي البارز جاسم الأسدي وتعرضه للتعذيب، واغتيال الطبيب أحمد طلال المدفعي في ديالى، واغتيال التدريسي عبد الرسول الأنباري في بابل، والهجوم المسلح على منزل الطبيبين قسور وأزهار الطريحي في النجف وقتل والدتهما.
11. قيام القوى المسيطرة على الحكم بمحاولة تمرير تشريعات وسياسات ذات طابع أيديولوجي– ديني تلغي التنوع الاجتماعي والثقافي والديني وحقوق الجماعات والأفراد التي نصّ الدستور على حمايتها بموجب المواد (2، 3، 46)، من بين ذلك قيام السلطات العراقية في20 شباط/ فبراير 2023 بإصدار قانون “واردات البلديات” الذي يحظر في إحدى مواده على المواطنين جميعاً (من كلّ الديانات بما فيها المسيحيون والإيزيديون) صناعة أو بيع أو شراء المشروبات الكحولية في العراق، وهذه مخالفة صريحة للمادة الدستورية(37/ ثانياً) التي تكفل حماية الفرد من الإكراه الفكري والسياسي والديني، فضلاً عن مخالفة المواد (2/ ثانياً، 46)، بالإضافة إلى التأثير السلبي للقانون الجديد على الدخل المالي للآلاف من مواطني الديانات غير المسلمة، ممن يعملون في هذا المجال.
12. استمرار الانتهاكات لقواعد العمل الديمقراطي وللادارة المؤسساتية في إقليم كردستان، بما في ذلك الفشل في إجراء الانتخابات البرلمانية في مواعيدها المحدّدة، وتمديد عمر برلمان الإقليم خلافاً للشرعية الانتخابية وتعطّل دوره في الرقابة والمحاسبة وإقرار موازنات الإقليم السنوية، وتعمق حالة تحزيب المؤسسات ومن ثمَّ الانقسام الإداري والأمني بما له من انعكاسات سلبية على حياة المواطن، فضلاً عن توظيف السلطة القضائية في الصراع السياسي، وتوقف مساعي كتابة دستور إقليم كردستان بالرغم من أهميته في وقف التجاوزات والانتهاكات للحقوق المدنية وفي منع تشريع قوانين تهدد الحريات العامة وحق التعبير والنشر، إلى جانب استشراء حالات ملاحقة الصحفيين والمدونين والناشطين، باستخدام نصوص قوانين موروثة من الحقبة الدكتاتورية وتتعارض مع الدستور العراقي.
من كلّ ما تقدم، فإننا نعرب عن احتجاجنا الشديد من إمكانية نشوء نظام شمولي جديد، تحت نظر وصمت الأمم المتحدة وممثليتها في العراق، لا سيما أنّ أحد أبرز واجبات “البعثة” هو مساعدة العراق في تنمية نظامه الديمقراطي، والدفاع عن الحريات المكفولة دستورياً، وليس العكس، وإننا إذ نحذّر المجتمع الدولي من مغبة التفرج وخطورة غض النظر عن التحولات السياسية التي تشهدها بلدان مثل العراق، فإننا نذكره بتجارب أخرى قضت تدريجياً على الديمقراطية وآلت إلى دكتاتوريات امتدّ خطرها إلى كل العالم، من قبيل النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا.
ونطالب البعثات الدبلوماسية الدولية الداعمة لـ”يونامي”، بالتحقيق في كلّ ما تم ذكره في أعلاه، والنظر في تفاصيل اللقاءات السرية والعلنيةالتي يصاحبها صمت مطبق عن انحراف العملية السياسية والانتهاكات الإنسانية التي يشهدها البلد، والتحقق من خلفيات المستشارين الذين تعاقدت معهم البعثة، وبعضهم جاء بناء على ترشيحات من أحزاب السلطة، وعدم الإكتفاء بالإحاطات التي تقدمها السيدة جينين بلاسخارت، التي غالبا ما تغفل الكثير من المضامين المهمة، وتسهم – بشكل مخيف- بإعطاء صورة منقوصة عن وضع الحريات والديمقراطية في العراق.
نعتقد نحن، الموقعين في أدناه، أن بعثة الأمم المتحدة فشلت في السنوات الأخيرة في الالتزام بالمهام المناطة بها، وأنها تميل إلى المداولات والتنسيق السياسي مع قوى السلطة أكثر بما لا يُقاس من مهامها في مساعدة العراقيّين في تثبيت دعائم الديمقراطية وتخليصه من القوانين القمعية الموروثة من حقبة الدكتاتورية، وأنها تتجنب بشكل مريب الاستجابة لواجباتها في الضغط الجاد والمتواصل على أحزاب الحكم لتغيير منهجها المقوّض للحرّيات، وإيقاف مسلسل نزيف الديمقراطيّة.
نحن ندعو الأمم المتحدة الى التدخل العاجل، وفق مهمامها القانونية ومبادئ العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعراق إحدى الدول الموقعة عليه، فضلاً عن مبادئ المؤتمرات التفصيلية اللاحقة للعهد الدولي التي عدّت الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان في أي بلد خطراً يهدد السلم والأمن الدولي، ويستوجب تدخل المجتمع الدولي لإيقافها.