كيف ساهمت حملات الاغتيال والتشويه بإفراغ البصرة من صوت حواء؟

ألترا عراق ـ فريق التحرير 

غادرت المدينة في ليلة ظلماء، وحرارة الرصاصة لا زالت تسعر في فخذها المغلّف بـ”الباندج الطبي”، لم تكن تتوقع أن تنجو من 16 رصاصة أمطرت العجلة التي كانت تروم الصعود بها. لوديا ريمون بنت الـ28 ربيعًا تروي بصوت يرتجف وعيون تدمع، لحظات من الرعب تجسّد فيها الموت خلال محاولة اغتيال تعرّضت لها وسط محافظة البصرة برفقة اثنين من زملاءها الناشطين، عندما كانوا متوجهين إلى عزاء صديق لهم اغتيل بأكثر من 25 رصاصة، قبل يومين من الحادث.

بعد يومين من محاولة اغتيال الناشطة لوديا ريمون، اغتال مسلحون مجهولون الناشطة النسوية وخبيرة التغذية الدكتورة رهام يعقوب وسط البصرة

“هي ذات العجلة الكراون البيضاء، المعروفة محليًا (رأس الثور)، التي اغتالت صديقنا تحسين أسامة في محل عمله بمنطقة الجبيلة وسط البصرة، حاوت اغتيالي مع أصدقائي فهد الزبيدي وعباس صبحي”، تقول لوديا وهي تتحدث عن اليوم الذي اسمته بـ”الأسود”، وتضيف “لا أنام الليل منذ يوم الحادث 17 آب/أغسطس 2020، لحظات من الرعب والخوف، لم أكن أتوقع أن أنجو من وابل الرصاص الذي أمطر السيارة التي كنت أريد الصعود بها للتوجه إلى مجلس عزاء صديقنا تحسين”.

وتشير لوديا في حديثها لـ”ألترا عراق”، إلى أن “العصابة التي حاولت قتلي مع أصدقائي على ما يبدو ذات العصابة التي قتلت أصدقائنا بحسب نوع العجلة التي أظهرتها كاميرات المراقبة”.

وبعد يومين من محاولة اغتيال ريمون، (19 آب/أغسطس 2021)، اغتال مسلحون مجهولون الناشطة النسوية وخبيرة التغذية الدكتورة رهام يعقوب، وسط محافظة البصرة.

وتكمل ريمون حديثها، أنه “على رغم من قلّة عدد النساء البارزات بالبصرة، لكن كانت لهن الحصة الأكبر بعمليات الاغتيال والتصفية والتهديد”، موضحةً أن “حملة القتل ليست بجديدة، حيث تمّ اغتيال الناشطة البارزة سعاد العلي في عام 2018، ومع انطلاق تظاهرات تشرين 2019 تم اغتيال الناشطة سارة طالب مع زوجها حسين، وبعد أشهر لحقت بهم الناشطة والمسعفة في التظاهرات أم جنات، وصولًا إلى اغتيال الدكتورة رهام يعقوب”.

كانت تنتظر لحظة الموت، حيث ودعت طفلتها وأوصتها أنها ستغادر إلى السماء، تقول زينب، وهي شقيقة سارة طالب التي تمّ اغتيالها مع زوجها داخل شقتهم في 3 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وتضيف أن “القصّة بدأت في عندما ظهرت على شاشات التلفزيون في تظاهرات البصرة 2018، ووجهت نقد لاذع للمحافظ أسعد العيداني والسلطة الدينية ومافيات الأحزاب، لتتلقى بعدها سيل تهديدات، كان أولها عن طريق رسالة تزامنت مع قتل 3 نساء في بغداد نصّت على أن (الخميس القادم دورك)”.

غادرت سارة مع زوجها إلى تركيا، لكنهم عادوا بعد 6 أشهر، وحاولوا العودة للحياة الطبيعية في البصرة، لكن التهديدات لم تنته حتى وصلت رسالة تهديد أرفقت معها رصاصة، أجبرتهم على ترك البصرة للمرة الثانية، قبل العودة للمشاركة في تظاهرات 1 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بحسب حديث شقيقة سارة لـ”ألترا عراق”.

حسين المدني وزوجته سارة، اللذان شوهدا آخر مرة، وهما يقومان بإسعاف المصابين جرّاء الغازات المسيلة للدموع بخلطات خاصة يعدانها لهذا الغرض، عثر عليهما في منزلهما مقتولين عن طريق إطلاق ثلاث رصاصات على الزوج وواحدة في رأس الزوجة.

وتضيف زينب، أن “موجة الاغتيالات التي تعرّضت لها النساء في البصرة، أجبرت عدد من صديقات سارة على مغادرة المدينة، أو الجلوس في البيت والكف عن إقامة أي فعاليات أو إبداء أي رأي سياسي للمحافظة على أرواحهن من رصاص الميليشيات”، مشيرةً إلى أن “عمليات اغتيال النساء الناشطات في البصرة هو رسالة لتخويف باقي النساء ومحاولة لتكميم الأفواه، وعلى ما يبدو، قد نجحوا إلى حد ما في كتم الأصوات باستثناء ناشطات معدودات يحاولن مواجهة ماكينة القتل بمنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي”.

تحتل محافظة البصرة الصدارة من حيث عدد اغتيالات النشطاء والصحفيين والمتظاهرين

وتشير أصابع الاتهام إلى الفصائل المسلحة “الموالية” لإيران، وفقًا لتقرير نشرته مؤسسة مبادرة الإصلاح العربي البحثية، موضحة أن “عمليات اغتيال الناشطين تتمثل بمحاولات تصفية الشخصيات المدنية البارزة المعارضة، لمخاوف الجبهات الولائية من احتمالية استثمارها كمشاريع منافسة انتخابية”.

وهذا ما تؤكده لوديا ريمون، والتي أجبرت على ترك منزلها في البصرة، قائلة إنه “رغم كل التحديات والمخاطر الي كانت تحيط بنا من كل النواحي، لكن بعد الحادث اغتيال الدكتورة رهام أصبح تخوف الفتيات أقوى، والسبب هو عوائلهم التي تمنعهم من النزول إلى الشارع أو المشاركة في أي فعاليات احتجاجية أو سياسية كأن يكون الترشح للانتخابات، وهو الهدف الذي عملت عليه الميليشيات من خلال حملات القتل والتشهير والتهديد”.

وتبيّن ليمون أن “الحملات التي تعرضنا لها عملت على إسكات الصوت النسوي، لأنه من أخطر الأصوات المؤثرة في  المجتمع”، موضحة أنه “مع هذا من الممكن أن تظهر أصوات نسائية حرّة بالمستقبل القريب”. 

ولم تكن الاعتداءات تقتصر على السنوات الأخيرة، حيث يعود تاريخ هذه الحوادث إلى تأسيس التيار الصدري لها في العام 2005، عندما هاجمت مجموعة تابعة لمكتب الصدر في البصرة تجمع طلبة كلية الهندسة خلال سفرة سياحية لمنتزه الأندلس.

وقتها، اعترف عبد الله المنشداوي مسؤول الطلبة في مكتب الصدر في البصرة، بعد الحادث بأيام في تصريح صحفي، معتبرًا أنه “أقام عليهم الحجة”، وأن “لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نهتهم عن المنكر ولم يستجيبوا”، وأن طلبة كلية الهندسة في جامعة البصرة كانوا “يمارسون الفسق كونهم كانوا يسمعون الأغاني المنبعثة بصوت عال من مسجل صوت كان معهم خلال شهر محرم، حيث دم الحسين لم يجف بعد”.

وامتدت سلسلة الانتهاكات والتعدّي على النساء لأسباب مختلفة، لكن غالبًا ما يتم ربطها بمخالفة “الشريعة” والأعراف الاجتماعية.

وتقول (ح. س) وهي ناشطة فضّلت عدم نشر اسمها، إنه “غالبًا ما يتعرضن النساء الناشطات إلى التشويه واتهامات كبيرة قد تؤدي إلى قتلهن كما حصل مع الشهيدة  الراحلة د.رهام يعقوب، حيث تعرضت لتشوية كاذب ونشر لها صور مع القنصل الأمريكي في لقاء قديم ضمن عملها، ولقد تحوّرت الصورة إلى تشويه صورتها واتهامها بالخيانة والعمالة مما خلق مبرّر قتلها”.

وتضيف في حديثها لـ”ألترا عراق” أن “الكثير من الناشطات منذ خروجهن لساحة التظاهرات وإلى الآن يتعرضن للأذى، حيث تركن ديارهن، ورحلن بعيدًا عن البصرة”، موضحة أن “دور النساء الناشطات خلال احتجاجات تشرين كان كبيرًا حيث قمن بمبادرات عظيمة لمساندة الشباب من أجل إحياء هذا الوطن من جديد، لكن كانت يد الغدر والخيانة التي طالت النساء كانت سببًا كبيرًا لإبعاد العديد من الأصوات النسوية الحرة”.

وتحتل محافظة البصرة الصدارة من حيث عدد اغتيالات نشطاء والصحفيين والمتظاهرين.

ويصف ناشطون عمليات القتل بأنها “منظمة”، وتقف خلفها جهات متنفذة ومدربة على القتل، حيث “اكتسبت خبرة واسعة من سنوات الطائفية، وتعمل على كتم الأصوات المناهضة”.

ألهام الزبيدي، وهي مسؤولة رابطة لوتس النسوية الثقافية في البصرة، تقول إن “العديد من العوائل في البصرة وبعد حملات التشهير والاغتيال منعوا  بناتهم من المشاركة بالعديد من الفعاليات وليس التظاهرات فقط”، مبينة أن “الإرهاب الذي ضرب العراق كله هو رسائل قاسية ومدمرة للمجتمع، وتعمل على إفراغ البلد كله وليس فقط النساء من محبيه”.

وتعتقد الزبيدي أن “العنف الموجه ليس ضد النساء فقط، بل هو لإخلاء المدينة من صوت حواء، وبالتالي؛ ستخرج مع عائلتها، وربما هي هجمة على المجتمع بشكل كامل عن طريق استهداف أصعب نقطة وهي النساء”، لافتة إلى أنه “من حرب إيران في ثمانينيات القرن الماضي، وإلى الآن المرأة تتلقى مصاعب ومخاطر متعددة الأشكال، وتواجهها  بكل ما تملك من صبر وحكمة وشجاعة وإصرار على الحياة، وهي تقف من جديد بعد كل محنه تمر عليها أو على المجتمع”.

ويخوض النساء صراعًا شرسًا مع الأحزاب الإسلامية والفصائل المسلحة التي تحرّم الاختلاط مع الرجال وتحاول أن يقتصر دورهن على الواجبات المنزلية والزوجية، وفقًا لعديدات من المحافظة.

وبرزت ملامح ذلك الصراع، بعد دعوة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بعدم اختلاط الجنسين في خيم الاعتصام، حيث عبرت الفتيات عن رفضهن لدعوة الصدر من خلال لبس أزياء الرجال ووضع شوارب، في حين سخرت أخريات برفع لافتات تقول إن “الاختلاط حرام لكن السرقة وقتل الناس حلال”.

ويمتد الصراع إلى معارضة تلك الأحزاب لمشروع قانون العنف الأسري الذي يحاول مكافحة قتل وتعنيف النساء داخل المنازل، حيث يقول الأمين العام لعصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، في رسالته التي اعترض فيها على القانون في آب/أغسطس 2020، إنه “وفقًا لمشروع القانون، فإن ضحايا العنف الأسري يلتجؤون إلى أماكن ليست بالضرورة تحت إشراف الدولة، بل ترعاها مؤسسات المجتمع المدني، والتي يعمل الجزء الأكبر منها تحت رعاية المؤسسات الأمريكية والسفارة الأمريكية”.  

وتسعى عدد من النساء إلى المشاركة في العملية السياسية ولعب الدور الأساسي في ما يطلقن عليه “التغيير ما بعد تظاهرات تشرين”، وهي “محاولة للمناورة وتغيير السلوك الاحتجاجي والابتعاد عن رصاص القتل الساعي إلى إسكات الأصوات المناهضة”.

هيلين عبد الواحد وهي محامية وناشطة مدنية، تعرضت للتهديد خلال احتجاجات تشرين أجبرها على ترك منزلها، وتقول لـ”ألترا عراق”، إنها “وبالاشتراك مع عدد من النساء أقمن العديد من الفعاليات في يوم المرأة العالمي من بينها مسيرة احتجاجية رفعت أبرز القوانين والتشريعات التي تضطهد المرأة”، مبينة أنه “رغم التهديد حاولن إكمال مسيرة الناشطات الأربع اللواتي تم قتلهن وهن (سعاد العلي وسارة طالب وأم جنات ورهام يعقوب)، حيث أقمنا فعالية في يوم المرأة طالبنا خلالها بالكشف عن القتلة ومواصلة النضال من أجل استحصال الحقوق”.

يتعرضن النساء الفاعلات في المجال العام إلى حملات تشويه وتحريض واسعة في البصرة

وتضيف عبد الواحد، وهي عضو مؤسس لأحد الأحزاب الجديدة التي انبثقت من احتجاجات تشرين، أنه “يجب أن تأخذ المرأة دورها في التغيير من خلال العمل السياسي والاحتجاجي والاجتماعي وتساهم بتعديل القوانين التي تضطهد المرأة، وتحويل النساء من أرقام انتخابية إلى حقائق موضوعية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *